"الميل الأخير" من سباق مكافحة التضخم

من المؤكد أن أسعار الطاقة قد تكون عاملا مهما من العوامل المساهمة في التضخم الإجمالي في منطقة اليورو. فقد ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا في 2022. ومع أنها انخفضت منذ ذلك الحين، إلا أنها بلغت ضعف مستواها قبل عام من حرب أوكرانيا. وهذا لا يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التدفئة فحسب، بل تكاليف عديد من العمليات الصناعية، وإنتاج الغذاء، وخدمات مثل خدمات الإيواء. لذا، فإن صدمة أسعار الطاقة ربما خلفت تأثيراً أقوى وأطول أمداً على أسعار عديد من السلع الاستهلاكية، خاصة المواد الغذائية وبعض الخدمات في أوروبا. ومع ذلك فقد انخفضت أسعار الطاقة- ولم يكن ذلك مقرونا بانخفاض أسعار الخدمات. إن أقل من ربع نسبة "تراجع التضخم" التي بلغت ست نقاط مئوية في منطقة اليورو خلال العام الماضي كان راجعاً إلى الخدمات. ومن ناحية أخرى، بلغ معدل تضخم الخدمات في الولايات المتحدة نحو 5 %. والسؤال إذن هو، لماذا اتبعت أسعار الطاقة والسلع المسار التقليدي- اتخذت منحى الصعود في البداية ثم اتخذت بعد ذلك منحى الهبوط- بينما ظل قطاع الخدمات يعاني الضغوط التضخمية؟ يكمن أحد التفسيرات المقنعة فيما يسميه أهل الاقتصاد بعدم الانتباه العقلاني: فعندما يكون التضخم منخفضا، ويظل مستقرا فترة طويلة، حيث الوكلاء الذين يحتكمون إلى العقلانية لا يشعرون أنهم مضطرون إلى التفكير كثيرا في الأسعار. والنتيجة هي أن الأجور وأسعار السلع الأخرى غير الطاقة قد تظل ثابتة، حتى مع تقلب أسعار الطاقة بمعدلات متواضعةــ كما كانت الحال حتى 2019. وينهار هذا التوازن عندما يرتفع سعر الطاقة أو بعض المدخلات الحيوية الأخرى ارتفاعا حادا. إن ارتفاع أسعار الطاقة في 2022- إلى جانب الحدث الجيوسياسي الرئيس الذي أحدث ذلك- أثار يقظة الناس. فعندما ارتفعت بعض الأسعار الشديدة الوضوح، مثل أسعار السيارات المستعملة، بنسبة 50 % تقريبًا في غضون بضعة أشهر، بسبب ارتفاع الطلب بعد الوباء وتعطل سلسلة التوريد، أصبح التضخم محور اهتمام الكيانات الاقتصادية. وعندما تولي الشركات والعمال اهتماما بالغا للتضخم، فإنهم يعدلون أسعارهم ومتطلبات الأجور بقدر أكبر من التواتر. وهذا يفسر سبب امتداد التضخم الذي شهده قطاع الطاقة والسيارات إلى الاقتصاد بأكمله. وفي 2022، استغرقت البنوك المركزية، خاصة البنك المركزي الأوروبي، كثيرا من الوقت حتى تدرك هذا التحول في النظام، وأنه لم يعد بإمكانها أن تعتمد على الظروف الإيجابية التي عرفتها العقد الماضي، عندما كان للتحولات الرئيسة الأخرى في أسعار النفط تأثير محدود في التضخم. إن مجرد الوصول إلى هدف 2 % لبضعة أشهر لن يكون كافياً لبلوغ الهدف الذي ينبغي للبنوك المركزية أن تسعى لتحقيقه حقاً: اقتصاد ينسى فيه العمال والمنتجون التضخم. لذا فإن التحدي الذي يواجهه محافظو البنوك المركزية لا يتمثل في رفع معدل التضخم من 3 % إلى 2 %- "الميل الأخير" من سباق مكافحة التضخم- بل في الإبقاء عليه عند هذا المستوى فترة طويلة حتى يتوقف الناس عن القلق بشأن احتمال ارتفاع الأسعار مرة أخرى في المستقبل. إن هدف 2 % ليس الهدف النهائي، بل هو بداية تحد جديد. خاص بـ "الاقتصادية" حقوق النشر بالاتفاق مع بروجيكت سنديكيت، 2024. www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي