الثقافة المالية .. تغير المشهد
تغير مشهد الثقافة المالية كثيرا في العقد الماضي، من ندرة من يتحدث عنها إلى نقاشات متكررة عن أخطار الاستثمار في الأسهم والعقار، ومن اكتشاف أثر تكلفة كوب القهوة اليومي في مصاريف الفرد، إلى تفصيل النسب الادخارية المثلى، ومن اختفاء القنوات الاستثمارية إلى النقاشات الدقيقة عن أدوات ومنصات مالية جديدة ومبتكرة، وخيارات استثمارية متنوعة. تزامنت هذه التغييرات مع ثورة مشاركة المحتوى في الوسائط الاجتماعية الجديدة، وبالطبع أسهمت التغييرات الاقتصادية التي تشمل دخول فئات عمرية متنامية إلى سوق العمل مع التطورات السعرية والضريبية والتنموية.
يتمتع الأفراد اليوم بمزيد من الوعي بالأخطار المرتبطة بالاحتيال المالي على وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بالواقع قبل عشرة أعوام. لكن من المفارقة أن نجد التواصل الاجتماعي أسهم في تنوع طرق الاحتيال وجعل الضحايا أقرب للمحتالين من أي وقت مضى. أصبحت الأدوات الإلكترونية المتجددة مكتبة حية للتجديد في النصب والاحتيال. فتح الانفتاح على الإنترنت الباب لفئات جديدة من المستخدمين، كبار السن أو صغاره، ما جعل المحتالين يستهدفونهم مباشرة. لهذا، من المهم أن نتعامل مع فرص الاستثمار والعمليات المالية المروجة على وسائل التواصل الاجتماعي بتشكيك متطور يتوافق مع تطور الأدوات التقنية وأساليب التواصل الجديدة، ويستمر الوعي المالي الخاص بالحماية من هؤلاء المحتالين في الارتفاع.
الكم الهائل من المعلومات المالية المتاحة على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يكون مرهقا. للتنقل في هذا الكم الكبير من المعلومات، من المهم أن نسعى إلى الوضوح والتركيز على المصادر الموثوقة. يمكن على سبيل المثال التفريق بين صانع المحتوى المهني وصانع المحتوى الذي ينحدر بمعياره الأخلاقي لجمع المتابعين والترويج لمحتواه لأسباب مادية. المفارقة أن اللاعبين اليوم في مجال صناعة وتمرير المحتوى أصبحوا كثرا، والأمور متداخلة بشكل كبير، إذ يصعب أحيانا التفريق بينهم. حتى الشركات الكبرى والجهات النظامية قد تقع في مطب الدعم لصانع محتوى يقدم ما يتعارض مع القيم المالية المعتبرة، أو يروج لخيارات مالية تؤثر سلبا في قرارات متابعيه. يمكنك البحث عن محتوى يقدم المعلومات بوضوح وإيجاز ونظام من خلال متابعة الشخصيات المؤثرة أو الخبراء الماليين الموثوق بهم، الذين يقدمون رؤى قيمة ويستندون إلى معايير أخلاقية مهنية واضحة. بتصفية الضجيج والتركيز على المعلومات ذات الجودة، يمكننا اتخاذ قرارات مالية أفضل وتجنب الاستسلام للتوجيهات المتضاربة.
مع زيادة تطورات النصب والاحتيال على وسائل التواصل الاجتماعي وكثرة الخيارات المالية وتنوعها، من الضروري تطوير مهارات التفكير المالي النقدي. وهذا يبدأ من الاعتماد على المبادئ التي تقود الثقافة المالية الفردية، التقييم الذاتي، ومعرفة الأولويات الشخصية التي تستحق الاهتمام. ومن ثم استجواب مصداقية فرص الاستثمار، وإجراء بحث شامل قبل اتخاذ أي قرارات تقود إلى التزامات مالية، هذا الأمر يجري على كل الممارسات المالية المختلفة، سواء كانت تحسينا لمصادر الدخل أو الحصول على فرص تمويلية أو لخوض غمار الاستثمارات الجديدة.
في ظني أن ما حصل في العقد الأخير يعد أمرا إيجابيا بأكثر من معيار، فانتقال المعلومة المالية الصحيحة والخاطئة أفضل من افتقار القنوات المعرفية إلى المعلومة المالية بشكل كامل، ودخول فئات جديدة وتعرضها للأدوات والخيارات المختلفة أفضل من ابتعادها الكلي عن هذا الجزء من الأساس من حياتنا اليوم. لكن كما ترتفع المحاسن وتزيد مع هذا الزخم ترتفع الأخطار كذلك! مع ضعف السيطرة على ما يتاح لنا من محتوى، يبقى الرهان بالدرجة الأولى ـ كما هو في العادة ـ على المتلقي، الذي يجب أن يملك أدوات التفريق بين الغث والسمين. وبالدرجة الثانية تأتي المسؤولية على العارفين بأساسيات هذه الصناعة وأدبياتها في المساعدة على تصحيح وتحسين سيل المعلومات، كل من زاويته، وحسب إمكاناته.