الحرب الباردة الثانية والحفاظ على التعاون الاقتصادي «2 من 4»
على مدار الأعوام الخمسة الماضية، تكثفت المخاطر التي تهدد حرية تدفق رؤوس الأموال والسلع في ظل نمو المخاطر الجغرافية ـ السياسية. فبعض التدابير، بما فيها التعريفات الجمركية أو القيود على التصدير، تستهدف التجارة والاستثمار مباشرة. وهناك تدابير أخرى خلف الحدود تؤثر في تدفق التجارة على نحو غير مباشر، مثل الدعم الضريبي والمالي لقطاعات محلية معينة وشروط المكون المحلي. في العام الماضي تم فرض نحو ثلاثة آلاف ممارسة تجارية تقييدية ـ أي نحو ثلاثة أضعاف عدد الممارسات المفروضة في 2019.
تكثف الشركات متعددة الجنسيات إبان إعلان نتائجها المالية مناقشتها لقضايا مثل إعادة توطين النشاط، والتقريب إلى الجوار، والتوريد من الدول الصديقة، والتراجع عن العولمة.
السؤال المطروح هنا أهي حرب باردة ثانية؟
إذن، هل نحن على مشارف حرب باردة ثانية؟ من الملاحظ أن القوة المحركة الرئيسة في الوقت الحالي مماثلة ـ أي وجود تنافسية أيديولوجية واقتصادية بين قوتين عظميين. وقد تمثلت هذه القوة المحركة إبان الحرب الباردة في التنافسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهي الآن بين الولايات المتحدة والصين. ولكن الساحة التي ينطلق فيها عنان هذه القوى مختلفة الآن اختلافا جذريا من عدة أبعاد.
بداية، يلاحظ أن درجة التعاضد الاقتصادي بين الدول في الوقت الراهن أعلى من السابق، نظرا إلى أن الاقتصادات أصبحت أكثر اندماجا بكثير في السوق العالمية ومن خلال سلاسل القيمة العالمية المتشابكة. وتبلغ نسبة التجارة العالمية إلى إجمالي الناتج المحلي في الوقت الراهن 60 في المائة مقارنة بنسبة قدرها 24 في المائة أثناء الحرب الباردة. وهذا سيؤدي على الأرجح إلى ارتفاع تكاليف التشرذم.
يتزايد حاليا أيضا عدم اليقين بشأن الكتلة التي قد تختار الدول الانضمام إليها. فقد ازدادت التقلبات في أيديولوجية القيادة السياسية داخل كل بلد مقارنة بحقبة الحرب الباردة وهو ما يتعذر معه تحديد طبيعة الولاء على وجه الدقة. وهذا الشعور بعدم اليقين يمكن أن يرفع تكاليف التشرذم أكثر.
من جهة أخرى، نجد أن الدول المحتمل عدم انحيازها في الوقت الراهن لديها وزن اقتصادي أكبر من حيث إجمالي الناتج المحلي والتجارة وتعداد السكان. وبالنسبة إلى الفترة الحالية، يتناول التحليل دراسة كتلتين افتراضيتين على أساس أنماط تصويت الدول في الأمم المتحدة وتشمل في الأغلب الولايات المتحدة وأوروبا في الكتلة الغربية والصين وروسيا في الكتلة الشرقية، مع عد بقية الدول "غير منحازة". في 1950، كانت الكتلتان الغربية والشرقية تمثلان معا نحو 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وتمثل الكتلتان الافتراضيتان في دراستنا اليوم نحو 70 في المائة من إجمالي الناتج المحلي وثلث سكان العالم فقط. وسيتعين عليهما التنافس مع أطراف مؤثرة ناشئة غير منحازة.
نظرا إلى ازدياد التكامل الاقتصادي بين هذه الأطراف ـ ففي 2022 ضمت أكثر من نصف معاملات التجارة العالمية إحدى الدول غير المنحازة ـ أصبح بإمكانها أن تعمل كجسور وصل بين الكتلتين المتنافستين. وبإمكانها كذلك الاستفادة مباشرة من تباعد مسارات التجارة والاستثمار في ظل الاقتصاد العالمي الذي يعاني التصدعات، والتخفيف من آثار التشرذم السلبية على التجارة، ومن ثم خفض تكاليفه.
السؤال هنا أيضا هل ما يحدث من تزايد التصدعات حقائق حول التشرذم؟
ومن هنا انتقل إلى استعراض بعض الحقائق حول التشرذم. وكما سيتضح لكم، هناك مؤشرات على تزايد التصدعات. فعلى غرار فترة الحرب الباردة، لا نرى دلائل مؤثرة بشأن تراجع العولمة، نظرا إلى أن حصة التجارة العالمية في إجمالي الناتج المحلي العالمي لا تزال مستقرة نسبيا. ولكننا بدأنا نرى مؤشرات التشرذم مع حدوث تحولات ذات مغزى في العلاقات التجارية الثنائية الأساسية.