إدارة المياه بتوازن وكفاءة
يعاني العالم مشكلة ندرة المياه، ونحو ربع سكان العالم لا يجدون مياه الشرب المأمونة، ويفتقر نصفهم تقريبا إلى خدمات الصرف الصحي المناسبة، بل يواجه ما يقرب من ثلثي سكان العالم ندرة حادة في المياه لمدة شهر واحد على الأقل سنويا، وسيؤدي تغير المناخ إلى زيادة عدم انتظام تدفقات المياه، وفي الوقت نفسه، يستخدم نظام الطاقة العالمي نحو 370 مليار متر مكعب من المياه العذبة في 2021، أو ما يقرب من 10 في المائة من إجمالي المسحوبات العالمية من المياه العذبة، فالمياه ضرورية لكل جانب من جوانب إمدادات الطاقة تقريبا، بدءا من توليد الكهرباء حتى إنتاج الوقود وزراعة الوقود الحيوي، لذلك أصبح موضوع الإدارة المستدامة للمياه هو القضية العالمية الأكثر بروزا، وهنا مقولات ترى أن تسريع تطوير الطاقة النظيفة قد يساعد على تخفيف أزمة المياه في العالم، وأن القرارات التي نتخذها اليوم ستؤثر في قدرتنا على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي للجميع.
وللحديث عن هذه القضية، فإن الموقع الجغرافي بما يحتويه من تضاريس ومناخ يفرض تحديات كبيرة على دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك ارتفاع درجات الحرارة حتى تصل إلى أكثر من 50 درجة مئوية في الصيف مع سرعة تبخر المياه، وأنماط هطول الأمطار غير المتناسبة على مستوى جغرافية المنطقة، مع حدوث ظواهر جوية متطرفة، كما أن المنطقة تعاني محدودية مصادر المياه العذبة الطبيعية مثل الأنهار والبحيرات، ما يجعلها تعتمد بشكل كبير على طبقات المياه الجوفية غير المتجددة، وقد أدى الإفراط في استخراج المياه الجوفية إلى استنزاف هذه الموارد وتدهورها، ما يشكل تهديدا خطيرا للأمن المائي على المدى الطويل، وكل ذلك أسهم بآثاره في الموارد المائية والزراعة وقدرة البنية التحتية والصحة العامة، ما تطلب معالجة استراتيجيات منسقة للتخفيف والتكيف على جميع المستويات المحلية والوطنية والإقليمية، وكان من بين الجهود التي بذلتها دول المنطقة لمواجهة هذه التحديات البيئية بفاعلية العمل بشجاعة وقوة على مبادرات التنمية المستدامة، ومشاريع الطاقة المتجددة، بكل ما تتطلبه من استثمارات كبرى وابتكارات غير مسبوقة، من أجل الحفاظ على موارد المياه العذبة، وتطوير تقنيات الري الذكية، واستخدامات الطاقة المتجددة، والتعاون من أجل ذلك بين دول مجلس التعاون الخليجي والشركاء الدوليين لتبادل المعرفة وأفضل الممارسات في مواجهة هذه التحديات.
وعلى هذا الصعيد، يؤكد تقرير للبنك الدولي ما تتمتع به دول مجلس التعاون الخليجي من خبرة في الأساليب المبتكرة لمعالجة التحديات المرتبطة بالمياه والطاقة، فالمنطقة -وفقا للتقرير- تستند إلى تاريخ طويل في التكيف مع الظواهر الجوية المتطرفة، كمثل ندرة المياه، وحلول الطاقة المستدامة والأمن المائي في سياق تغير المناخ، ما يجعل دول المنطقة مصدرا غنيا لتعزيز المعرفة والتعلم من تجاربها. ولم يصدر هذا الرأي من فراغ، خاصة مع انتشار الظواهر الجوية المتطرفة في شتى بقاع الأرض، وهناك دول كثيرة حول العالم كانت تقف على مصادر لا تنضب من المياه السطحية والجوفية وهي الآن تواجه خطر الجفاف، واستطاعت دول المنطقة وخلال أعوام طويلة من التعايش مع هذه الظواهر أن تطور أساليب مبتكرة للتعامل معها.
وبالرجوع إلى تقرير البنك الدولي، فإنه من بين هذه الأساليب المبتكرة، فصل إنتاج المياه عن استهلاك الوقود والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، فمعظم المياه العذبة في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي يتم إنتاجها من تحلية مياه البحر، وفي منطقة تزداد حرارة وجفافا، كما تزداد تكلفة تأمين المياه والطاقة لنحو 60 مليون شخص كل يوم، ولمواجهة تحدي الطاقة مع الحفاظ على تدفقات المياه يشير التقرير إلى الخيارات النظيفة ومنخفضة التكلفة لتحقيق أمن الموارد، ومن ذلك استثمارات السعودية، فيما سيصبح أكبر محطة لتحلية المياه بالطاقة الشمسية في العالم، ما يجمع بين تطوير مصادر الطاقة المتجددة وضمان استدامة المياه.
فكما أشرنا أعلاه، فإن توجيه الاستثمارات بشجاعة نحو أفكار ومناطق غير مسبوقة هو الذي منح الفرصة اليوم للوقوف على تجربة فريدة من نوعها، ولتصبح السعودية نموذجا عالميا يحتذى به، فالمياه عنصر أساس في كيفية إدارة النظم البيئية بشكل مستدام، وهي الرابط النهائي بين القطاعات -من الزراعة إلى الطاقة إلى الصناعة- وتوافر المياه شرط ضروري في قلب السياسات والإجراءات المتعلقة بالمناخ.
ومن المبادرات أيضا، مبادرة الاستهلاك الفاعل وإعادة توجيه الدعم إلى من هم في أمس الحاجة إليه، ما أسهم في الحد من الاستهلاك غير الفاعل والمفرط للطاقة والمياه، فقد أسهم انخفاض أسعار الطاقة بشكل عام وعلى جميع المستهلكين في زيادة معدل استهلاك الفرد من المياه حتى أصبح هو الأعلى في العالم، في منطقة تعاني الشح في المصادر، فإعادة توزيع الدعم وإصلاحه أسهم بشكل جلي في إعادة الاستهلاك إلى معدلاته المناسبة، كما لا نغفل عن تجربة مطابقة التعريفات المعدلة مع الإعانات المستهدفة، وتطوير أجهزة القياس والتحول إلى أجهزة قياس ذكية، وإعادة تخصيص المياه الجوفية في المزارع، عند إدارة الطلب. ويشيد التقرير أيضا بمبادرة إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، التي أسهمت في تقليل تلويث النظم البيئية البرية والبحرية، فإعادة تدوير هذه المياه يوفر وسيلة صديقة للبيئة ويقلل الضغط على موارد المياه الجوفية الشحيحة، في حين إن الطاقة الموجودة في مياه الصرف الصحي تكفي لتلبية أكثر من نصف احتياجات مرافق مياه الصرف الصحي، خاصة أن معالجة مياه الصرف الصحي تتطلب جزءا صغيرا من الطاقة، فهي بديل غير مكلف نسبيا.
فالمياه والطاقة تعدان مفتاحين أساسيين لضمان المستقبل المستدام للبشرية وللكوكب، وهناك تأثير متبادل بين استخدام الطاقة في موارد المياه ونقص المياه في إنتاج الطاقة، فمن الضروري توجيه الاهتمام نحو استدامة هذين الموردين الحيويين معا. تمثل التجربة السعودية والخليجية بشكل عام، فرصة للعالم من أجل التعاون المشترك لتطوير ابتكارات نابعة من معايشتها الطويلة لهذه المشكلات، مع قدرتها الواضحة على الاحتفاظ بنمو متوازن، ومستدام، دون تطرف في أي اتجاه.