مصداقية أم مصدر قلق؟
يعود تاريخ وكالات التصنيف الائتماني إلى أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 عندما أسست أول وكالة للتصنيف الائتماني في 1909 على يد جون مودي، التي قدمت تصنيفات لسندات السكك الحديدية لكنها وسعت تغطيتها لتشمل أنواعا أخرى من الأوراق المالية. فكرة التصنيف بنيت في ذلك الوقت على مشكلة ندرة المعلومات المالية وصعوبة تحليلها ومقارنتها، فضلا عن إصدار حكم بشأنها، ولأن موديز كانت دار نشر في البدايات فلم يكن لديها صعوبات في جمع هذه البيانات وتحليلها ونشرها ولذلك تم الدفع لهم من قبل المستثمرين المحتملين الذين اشتركوا في خدماتهم. ذلك النجاح الذي تحقق لموديز أغرى شركات أخرى مثل شركة ستاندرد آند بورز S&P التي أسست في 1860 على يد هنري فارنوم، التي شاركت موديز في تقييم سندات السكك الحديدية وشركات المرافق العامة، ثم أسست وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في 1913 على يد جون نولز فيتش، التي وسعت لاحقا نطاقها ليشمل مجموعة واسعة من الصناعات والمصدرين. لقد قدمت وكالات التصنيف الائتماني المبكرة هذه دورا مهما في تشكيل النظام المالي الحديث من خلال توفير تقييمات موحدة لمخاطر الائتمان، ما سهل تداول السندات وأدوات الدين الأخرى في الأسواق الثانوية. وبمرور الوقت، أصبحت هذه الوكالات جزءا لا يتجزأ من أداء الأسواق المالية العالمية، حيث أثرت تصنيفاتها في قرارات الاستثمار والمتطلبات التنظيمية. وبعد حادثة الكساد الكبير 1929، التي سبقها انهيار في أسهم الشركات، صدرت من هيئة السوق المالية، التي أنشئت في ذلك الوقت، قواعد أكثر صرامة بموجب قانون جلاس ستيجال في منتصف الثلاثينيات وتم فرض قيود على قرارات الاستثمار في المؤسسات المصرفية والتأمينية وغيرها من المؤسسات المالية بحيث ينحصر في الأوراق المالية "من الدرجة الاستثمارية" التي تم تقييمها من قبل وكالات التصنيف الائتماني، بهذا تم تقنين الطلب على هذه التقييمات، وتزايد الطلب على تصنيفات وكالات التصنيف الائتماني.
لم يكن هناك كثير من المشكلات التي واجهت هذه التصنيفات، فلقد كانت طوال القرن الـ20 قادرة على تقديم توصيات جيدة، وتنبأت بمخاطر الائتمان بصورة جيدة، لم يكن هناك أي شك في المهنية، خاصة أن المعايير معلنة ومنشورة، ومن السهولة بمكان إعادة احتساب التصنيف والحكم على قرارات الوكالة، لكن ما حدث خلال الأزمة المالية 2008، جعل كثيرا من المراقبين يحملون هذه الوكالات جزءا من المسؤولية عن الأزمة المالية العالمية، فقد فشلت في إجراء تقييم دقيق للمخاطر المرتبطة بالمنتجات المالية المعقدة، ما أدى إلى منح تصنيفات عالية مع وجود مخاطر خفية، كان النقد الرئيس يركز على تضارب المصالح المتأصل في عملهم، وهو النقد نفسه الذي يتم توجيهه لأعمال مراجع الحسابات الخارجي "الاستقلال المالي" عن جهة إصدار الورقة المالية، فمصدرو هذه الأوراق هم أنفسهم من يدفع تكاليف تقييمات التصنيف الائتماني وهم أصحاب المصلحة الرئيسين، كما أن شركات التصنيف تعد في الأصل شركات خاصة هادفة للربح، فإن هدفها التشغيلي الرئيس هو تعظيم الأرباح من خلال الحفاظ على حصتها في السوق وزيادتها، وذلك بدلا عن هدف خدمة الاقتصاد بإنتاج التصنيفات الائتمانية الأكثر دقة. فمع التقنين الذي نشأ منذ بدايات القرن وحصر الاستثمار في سندات وأوراق مالية مصنفة، أصبح لدى الجهات الراغبة في إصدار ديون جديدة حافز قوي لاستخدام وكالات التصنيف التي تحقق لها أعلى التصنيفات الممكنة، وفي سوق هذا شكلها، فقد تحولت وكالات التصنيف إلى التنافس على إرضاء المصدرين.
لقد كانت الحجة الرئيسة التي قدمتها شركات التصنيف أنها غير خاضعة للرقابة، وأن المنهجية العلمية المتبعة غير قابلة للتلاعب بها، وأن المهنية سيد الموقف، وهذا جعل الجهات التنظيمية ولعقود تغفل عن مراقبة هذه الوكالات، خاصة أن الدين الحكومي نفسه أصبح محل تقييم من قبل هذه الوكالات، وأي تدخل من قبل الجهات التنظيمية كان فيه تهديد للتصنيف أو مصداقيته.
ومع ذلك وبعد الاتهامات الخطيرة التي وجهت لوكالات التصنيف، كان لا بد من بعض الإصلاح الذي تمثل في قرارات السلطات التنظيمية في الولايات المتحدة، بعد الأزمة المالية الذي تمثل في قرار عام 2008 لمعالجة قضايا تضارب المصالح بين وكالات التصنيف ومصدري الأوراق المالية، فتم منع هذه الوكالات من إصدار تصنيف على ورقة مالية أو منتج مالي ما لم تكن المعلومات الأساسية متاحة، واشترطت الكشف العلني عن المعلومات التي تستخدمها هذه الوكالات لتحديد التصنيف، وغير ذلك من الاشتراطات التي كان الهدف منها إعادة الثقة في أدوات وحزم المعلومات التي تعتمد عليها هذه الوكالات.
لكن أحدا لم يناقش المشكلة الأكثر تعقيدا في هذا الوضع، وهو الاعتماد المفرط من قبل المستثمرين على هذه التصنيفات، وهذه السطوة جعلتها تسيطر على 95 في المائة من سوق التصنيف الائتماني والباقي للوكالات الأخرى العاملة في هذا المجال خاصة في السوق الأوروبية، بينما تبلغ حصة موديز وستاندرد آند بورز نحو 80 في المائة من السوق تصل حصة وكالة فيتش لنحو 15 في المائة. هذه الاعتمادية المفرطة جعلت المستثمرين في حالة من القلق، وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية" وذلك لإعلان وكالة موديز خفض توقعاتها لتصنيف حكومة الولايات المتحدة من مستقرة إلى سلبية، مشيرة إلى ارتفاع المخاطر على القوة المالية للولايات المتحدة نتيجة العجز المالي واستمرار الاستقطاب السياسي داخل الكونجرس الأمريكي، ما يزيد من خطر عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من التوصل إلى اتفاق في الآراء بشأن خطة مالية لإبطاء التراجع في القدرة على تحمل الديون، ولقد حاولت الحكومة الأمريكية تبديد هذا القلق من خلال تصريح نائب وزير الخزانة الذي لم يكن متفقا مع قرار وكالة موديز وعلى أساس أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال قويا، وأوراق الخزانة هي الأصول الآمنة والسائلة البارزة في العالم، لكن ذلك لم يسهم في تبديد القلق، فالنفوذ الذي تتمتع به وكالات التصنيف الائتماني في الأسواق لا يمكن مجابهته بمثل هذا التصريح.
ومن هنا تحاول هيئات تنظيم الأسواق في أوروبا تخفيف هذا التركز والاحتكار من خلال التوصية بتفضيل واحدة من الوكالات الـ17 الأخرى المعتمدة لديها. ومع ذلك، فإن هذه التوصيات لم تجد صدى واسعا وبقيت الكيانات العامة الأوروبية التي ترغب في الإقراض تعتمد على توصيات "الثلاثة الكبار". ومع هذه السطوة الكبيرة لهذه الشركات الثلاث، والقلق الذي أصاب الجميع من تصنيف الاقتصاد الأمريكي، فإن البعض يرى بأن تلك الوكالات قادرة اليوم على إيذاء الجميع، وفقا لاستطلاع أجرته "الاقتصادية"، وبعيدا عن حجم هذا الإيذاء، فإن السؤال الأبرز هو عن المصداقية وليس عن الأثر.