صناعة الأفكار
في 1886 ابتكر جوتليب ديملر محرك البنزين وأسهم في اختراع السيارة الحديثة. وحينها لم يتصور أحد أن اختراعه سيتحول إلى شركة رائدة "مرسيدس ديملر" تسهم في اقتصاد ألمانيا وتعتمد عليها عشرات الصناعات الرديفة.
وابتكار ديملر مجرد مثال لصناعات عملاقة تقف خلفها اختراعات واكتشافات رائدة -من اختراع الكمبيوتر والآيفون، إلى اكتشاف الأسبرين والمضادات الحيوية. فالابتكار الناجح تنشأ حوله صناعات ضخمة تسهم في نجاح الشركة المالكة، وعظمة الأمة التي تحمل جنسيتها. فأمريكا مثلا قامت على أكتاف شركات عظيمة مثل فورد وبوينج وأبل وزيروكس. والشركة الأخيرة كانت مجرد مصنع صغير لإنتاج الورق، قبل أن تصبح عملاقا اقتصاديا بفضل ابتكارها آلة النسخ "التي لا يستغني عنها أي مكتب أو دائرة حكومية" وبيع حقوق تصنيعها للشركات الآسيوية.
أما شركة أبل فكانت تحقق خسائر متتالية حتى ابتكرت جهاز الآيفون في 2007 وأصبحت اليوم أكبر شركة في العالم. والمفارقة أن أبل مثل زيروكس لا تصنع أيا من أجهزتها الخاصة، ولكنها تملك حقوق ابتكارها وملكية أنظمة التشغيل فيها، وكلا الشركتين تثبت تفوق "اقتصاد المعرفة" الذي تعتمد عليه أمريكا على "اقتصاد التصنيع" الذي تعتمد عليه الصين وتايوان وفيتنام.
وهـذا يعني أن اقتصاد المعرفة يعتمد على حقوق الملكية الفكرية "من اختراع واكتشاف وتصنيع"، وأن امتلاك الفكرة هو في حد ذاته صناعة مدرة للأرباح. أعظم صادرات اليابان اليوم ليست الإلكترونيات، وأعظم صادرات أمريكا ليست الطائرات، وأعظم صادرات ألمانيا ليست السيارات، بل صناعة الأفكار التي تشكل وحدها 28 في المائة من مجمل الصادرات الأمريكية، و16 في المائة من مجمل الصادرات اليابانية، و11 في المائة من مجمل الصادرات الألمانية.
وعموما تظهر الإحصائيات أن إنفاق دولار واحد على الأبحاث والابتكارات يجلب 33 دولارا أرباحا. وهذه النسبة المغرية تفسر لماذا أنفقت أكبر سبع شركات للأدوية في أوروبا 161 مليار دولار بين 2007 و2011 على البحث والتطوير، لكون امتلاك حقوق اكتشاف واحد يضمن لها احتكار تصنيع العقار، أو تأجير حقوقه على الشركات الأخرى.
وما دعاني إلى كتابة هذا المقال هو التنبيه على أهمية البحث والابتكار وحقوق الاكتشاف وما يسمى بـ"رأس المال الذكي". للتذكير أن الاستثمار فيها هـو أفضل صناعة تتبناها الأمم، وأفضل طريقة لبناء اقتصاد المعرفة. لإثبات أن هذه الحقائق لا تزال غائبة عن مجتمعنا وأن أفضل ما نفعله حاليا هو استيراد الأفكار وشراء حقوق ما تم ابتكاره في "الخارج".