صناعة البيانات والتحكم بالكيابل

في عام 1858، أرسلت فيكتوريا ملكة بريطانيا رسالة تهنئة إلى جيمس بوكانان، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، أشادت فيها بـ"العمل الدولي العظيم" الذي نفذه البلدان، وذلك بعدما التقت بارجتان تعملان بالبخار في وسط المحيط الأطلسي لتوصيل طرفي كيبل بحري بطول أربعة آلاف كيلومتر وربطوا به ولأول مرة في التاريخ قارات أوروبا وأمريكا الشمالية عن طريق التليجراف.
استغرقت الرسالة التي أرسلتها الملكة أكثر من 17 ساعة لتسليمها، بمعدل دقيقتين وخمس ثوان لكل حرف، ومع هذه التهنئة العريضة لم يكمل الكيبل شهرا واحدا في العمل بسبب مشكلات فنية تعلقت بالعوازل، ولكن تلك التجربة وتلك الرسالة ظلت ملهمة في تاريخ الاتصالات العالمية، لقد جعلت الاتصال عن بعد ممكنا. مضى أكثر من قرن ونصف على تلك التجربة، واليوم هناك أكثر من 486 كيبلا تحت سطح البحر، تمتد عبر قيعان البحار والمحيطات لمسافة تزيد على 900 ألف ميل وتنقل أكثر من 95 في المائة من جميع حركة البيانات المتداولة عبر الإنترنت على مستوى العالم، وتعالج هذه الشبكة ما قيمته عشرة تريليونات دولار من التحويلات المالية عبر نظام سويفت يوميا، والأسرار العسكرية والمعلومات عن آخر الابتكارات والصفقات التجارية تتم عبر تدفق البيانات، لذلك عندما نسمع عبارة البيانات السحابية، فإنها في المحيط على الحقيقة وليست في السحاب أو عبر الأقمار الاصطناعية.
وتعد الكيابل البحرية أحد أهم الإنجازات التي تحققت في مجال نقل وتبادل البيانات والمعطيات الرقمية حول العالم ، فـ80 في المائة من مجمل الاتصالات ونقل البيانات تتم عبر هذه الكيابل، نظرا إلى سرعة تدفق البيانات فيها، وتمتعها بدرجة عالية من الأمن والسرية، والدقة العالية في نقل الإشارات، وقلة تكاليفها، مقارنة بالأقمار الاصطناعية والوسائل الأخرى.
ورغم التقدم المذهل في عالم نقل البيانات من قاع البحار، فإن المشكلات لا تزال تعصف بهذه الصناعة، بدءا من الأيام الأولى لنشر الكيبل في المحيط والذي تواجه معه السفن تحديات ضخمة، فقد يتلاعب الموج بالسفينة وهي معلقة بالكيبل البحري، ما يعرضها للخطر وعندها قد يتخذ القبطان قرارا بقطع الكيبل حتى تهدأ الأمواج، ثم بعد غمر الكيبل في مياه المحيط، فإنه عرضة للتدمير بسبب الأعاصير، فمثلا في 2012، ضرب إعصار ساندي الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ما تسبب في أضرار تقدر بنحو 71 مليار دولار وتدمير الكيابل البحرية بين أمريكا الشمالية وأوروبا، وعزل الشبكة بالكامل بين أمريكا الشمالية وأوروبا لعدة ساعات، وفي 2006 تسبب زلزال بقوة سبع درجات ضرب الساحل الجنوبي الغربي قبالة تايوان، في قطع ثمانية كيابل بحرية تسببت في انقطاع الإنترنت وتعطيله في تايوان وهونج كونج والصين واليابان وكوريا والفلبين، ليست الطبيعة وحدها المهددة للكيابل والاتصالات، فثلثا أعطال الكيابل ناتجان عن أنشطة بشرية وشبكات الصيد والصيد ومراسي السفن، ورغم هذه المهددات، فإن شركات الإنترنت العالمية قادرة على إعادة الاتصالات خلال ساعات بفضل القدرة على نقل الاتصال بسرعة بين الكيابل العالمية، لذلك فإن التهديدات الناتجة عن قضايا فنية يمكن تلافيها بسرعة، وتبقى المشكلات الرئيسة التي بدأت تطفو على السطح مع انتشار القلق من تحول المنافسة العالمية على نشر الكيابل في البحر إلى حرب اقتصادية أو سياسية أو حتى عسكرية، فقدرات العالم اليوم على البقاء والاستدامة قد أصبحت مرتبطة تماما بوجود اتصالات آمنة تماما، ويقال إذا كنت تتحكم في الكيبل نفسه، فلا داعي للقلق بشأن هذه الصعوبات لكن إذا كان الخصوم هم من يتحكم في ذلك فأنت في خطر.
وقد بدأ القلق يأخذ اتجاها مختلفا عندما بدأت شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي بالانتقال إلى سوق الكيابل البحرية، في وقت كان التحكم بالجزء الأكبر منها بوساطة عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة أبرزها شركة ألفابت الشركة الأم لمحرك البحث جوجل، وشركة ميتا "فيسبوك سابقا" وشركتا أمازون ومايكروسوفت. واكتسبت الولايات المتحدة اليد الطولى في السيطرة على كيابل الإنترنت العالمية الممتدة عبر قيعان المحيطات، لكن الأمر يتغير الآن تدريجيا، فقد باتت منطقة بحر الصين الجنوبي ساحة لصراع شديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن كيابل الإنترنت البحرية، ويوما بعد آخر تزداد حدة المنافسة، خاصة مع ظهور شبكات الجيل الخامس من الإنترنت التي تستهلك كميات كبيرة من البيانات المنقولة عبر الكيابل من أجل العمل بكفاءة.
وفي تقرير لـ"الاقتصادية" يشير خبراء عالميون إلى أن من يفرض سيطرته على بحر الصين الجنوبي سيكون بمقدوره السيطرة عمليا على خمس التجارة العالمية، لكن الأهم من وجهة نظر كثير منهم أن أبرز الأصول الاقتصادية المتاحة في المنطقة هي البيانات الضخمة، حيث يعتمد مستقبل الإنترنت بأكمله على الدول التي تهيمن على بحر الصين الجنوبي، يضاف إلى ذلك أن اقتصاد الإنترنت في منطقة جنوب شرق آسيا سيصل إلى تريليون دولار بحلول 2030. لذلك تحاول الولايات المتحدة وشركاؤها في أوروبا وأستراليا تعطيل الصين في هذا المجال من خلال التشكيك في مسألة حماية البيانات والأسرار إذا تم نقل هذه البيانات عبر الكيابل، التي تديرها الشركات الصينية. في الأعوام الماضية تدخلت الحكومة الأمريكية وفيما لا يقل عن ست صفقات لإبقاء شركة "إتش إم إن" الصينية خارج أعمال الكيابل البحرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ومع ذلك تسعى الصين جاهدة من خلال شركة "إتش. إم. إن"، لإنشاء كيبل بحري بقيمة 500 مليون دولار لربط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، وينافسها في ذلك مشروع مماثل تدعمه الولايات المتحدة، لوضع كيبل بحري بقيمة 600 مليون دولار لنقل البيانات من آسيا إلى أوروبا عبر إفريقيا والشرق الأوسط بسرعات فائقة لمسافة تزيد على 12 ألف ميل من الألياف التي تمتد عبر البحار والمحيطات على أن يتم الانتهاء منه 2025.
ولا شك أن هذه المنافسة في مصلحة المستهلك النهائي، الذي سيحصل على إنترنت أسرع وبتكلفة أقل، لكن في الوقت نفسه يثير مثل هذا التنافس القلق بشأن احتمالات توسعه أو خروجه عن السيطرة أو في حالات النزاع العسكري، فهل من المناسب أن تكون هناك اتفاقيات دولية جديدة لحماية البيانات مثل اتفاقيات حماية المدنيين في النزاعات العسكرية، خاصة أن البيانات والاتصال أصبحا عصب الحياة، ولا يمكن نقل الأموال والتحقق من شخصيات ما لم تتوافر شبكة اتصال داعمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي