دقة مؤشرات بيانات التضخم
كثر الحديث عن التضخم، خصوصا في المدة الأخيرة، التي شهدت ارتفاعا ملحوظا في أسعار السلع والخدمات في أرجاء العالم كافة. واستنفر كثير من دول العالم مؤسساتها المتخصصة، خصوصا البنوك المركزية للتصدي لظاهرة التضخم ومحاولة الحد منه. وحدد كثير من البنوك المركزية العالمية نسبة 2 في المائة، كمعدل تضخم مستهدف بعد صعوده في العامين الأخيرين لأضعاف تلك النسبة. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما التضخم؟ وهل قياسياته دقيقة وصحيحة أم تعاني العيوب والتحيز؟
التضخم بالنسبة إلى المستهلكين هو نسبة مئوية يعبر فيها عن الغلاء العام في أسعار السلع والمنتجات والخدمات التي يواجهها المستهلك "أو هو تراجع قيمة النقود مقابل المشتريات". ويمكن تعريفه أيضا بأنه معدل مئوي لمتغير اقتصادي يقيس متوسط تغير الأسعار العام خلال فترة زمنية محددة لجميع سكان منطقة جغرافية معينة. ويتم إعداده من قبل مؤسسات حكومية متخصصة بشكل دوري في مدن ومناطق أو ولايات الدول. وتصدر تقارير التضخم عادة كل شهر، حيث تقاس الأسعار وتقارن بمستوياتها أو أرقامها القياسية خلال الشهر الماضي أو مع الشهر نفسه قبل عام. وتعبر تلك المقارنات عن التغيرات العامة للأسعار "معدلات التضخم" الشهرية والسنوية.
تحدد عادة أهم السلع والخدمات التي يستهلكها السكان في طول البلاد وعرضها، وذلك من خلال مسوحات إحصائية يجري فيها تسجيل بيانات استهلاك السلع والمنتجات والخدمات لعينة من الأسر تمثل البلد أو المنطقة الجغرافية خلال فترة من الزمن. وتسمى مجموعة السلع والمنتجات والخدمات المستهلكة المحددة في المسوحات السلة الاستهلاكية. وتضم السلة الاستهلاكية عادة مئات من السلع والمنتجات والخدمات التي يسمى كل واحد منها بندا. وتوضع البنود في مجموعات استهلاكية رئيسة، كالأغذية والمواصلات والسكن والتعليم والرعاية الصحية. ويحدد لكل بند وزن معين يمثل نسبة الإنفاق عليه إلى إجمالي الإنفاق الاستهلاكي. وتجمع الأهميات النسبية لبنود كل مجموعة للحصول على أهمياتها النسبية. وتزداد أهمية البند أو المجموعة مع مقدار المبالغ التي يخصصها المستهلكون بشكل إجمالي للإنفاق عليه من جملة المبالغ المخصصة للاستهلاك، فالإيجار مثلا ترتفع أهميته مقارنة بوزن الخس. وتضرب الأهمية النسبية للبند في التغير السعري الشهري أو السنوي للحصول على مساهمته الشهرية أو السنوية بالتضخم. ثم تجمع مساهمات جميع البنود للحصول على معدل التضخم.
وتمر عمليات قياس أسعار البنود بمراحل عدة، حيث تقاس الأسعار في أماكن بيع التجزئة المختارة على أساس إحصائي معين في أنحاء متفرقة من المدن التي تقاس فيها الأسعار. ويتم في البداية الحصول على متوسط سعري لأهم المدن وقياس التغيرات السعرية فيها. ثم بعد ذلك يتم الحصول على متوسط سعري للمناطق والتغيرات السعرية فيها. تحدد مساهمات كل منطقة في التضخم على أساس الأهمية السكانية، وبذلك نحصل على التغير الكلي للبند أو السلعة للبلد ككل. وتتباين عادة تغيرات الأسعار بين المدن والمناطق، حيث تسهم عوامل محلية في تغيرات الأسعار، لكن المؤثرات العامة على الأسعار هي الأكثر تأثيرا في تغيراتها. وإذا كانت هناك عوامل عالمية كتقلبات أسعار الطاقة والمعادن والمواد الغذائية الأساسية والشحن واختلالات سلاسل التوريد فإنها تؤثر في الأسعار في دول العالم كافة.
إن عملية الخروج برقم نهائي للتضخم في أي بلد تمر بمراحل متعددة، وتقاس في أماكن مختلفة، ويقوم بها عدد كبير من العاملين. لهذا، فإن معدلات التضخم النهائية عرضة لبعض الأخطاء البشرية والإحصائية والتحيز في مراحل القياس والإعداد المختلفة. وتحاول الكيانات الإحصائية تطوير قدراتها وخبراتها في تلافي الأخطاء، قدر الإمكان، لكن لا يمكن القضاء كليا عليها. وتتميز بعض الدول بالدقة الإحصائية لملكيتها خبرات طويلة في إعداد الإحصاءات، وتتمتع مؤسساتها الإحصائية بأكبر درجات الاستقلال، وحصولها على التمويل اللازم دون تدخل في مخرجات بياناتها. من جانب آخر، قد تمارس ضغوط على المؤسسات الإحصائية في بعض الدول لتعديل بيانات الإحصاءات، ومن ضمنها نسب التضخم.
إضافة إلى ذلك، قد تميل بعض المعادلات والأساليب والإجراءات الإحصائية المستخدمة في إعداد بيانات التضخم، إلى التحيز ضد أو مع زيادة الأسعار، ما يخفض دقة البيانات. فافتراض أهمية ثابتة للبنود عبر فترة من الزمن مثلا يخفض دقة قياسات التضخم، حيث لا يأخذ في الحسبان ارتفاع الأهميات النسبية للبنود ولا إمكانية الاستبدال والإحلال التي يمارسها المستهلكون. كما أن تجيير التحسنات التقنية في بعض السلع، كالسيارات والحواسيب لمصلحة الأسعار يخفض من الارتفاعات الفعلية التي يواجهها المستهلك في شراء تلك البنود.
عموما تتعرض عمليات إعداد بيانات التضخم على مستوى الدول إلى كثير من المؤثرات التي تخفض من دقتها. لهذا يصعب الجزم بدقة بيانات التضخم حتى في الدول المتقدمة بنسبة عالية تقارب 100 في المائة. وترتفع أخطاء قياس التضخم مع ارتفاع معدلاته، فالدول التي تعاني معدلات تضخم مرتفعة تكثر فيها الأخطاء والضغوط على المؤسسات الإحصائية لتعديل البيانات. لهذا، فإن استهداف معدل ثابت أو التعامل مع التضخم لا بد أن يأخذ في الحسبان نسب الأخطاء المحتملة، حتى يمكن تجنب أخطاء السياسات النقدية أو المالية المرتبطة بالتضخم.