الديون وعجز الهيكل المالي

تزايدت الأخطار المرتبطة بارتفاع حجم الديون لجميع الاقتصادات في دول العالم، وتضغط هذه الديون على الموازنات العامة كلها، بما في ذلك ماليات الدول المتقدمة والغنية. لكن هذه الضغوط بلغت حدودا غير محتملة في الدول الفقيرة، ولا سيما الإفريقية منها، خصوصا في ظل الارتفاع المتواصل للفائدة على الدولار والعملات الرئيسة الأخرى، ما رفع بالضرورة تكلفة القروض.
فالنسبة الكبرى من هذه الديون مقومة بالعملة الأمريكية. وقد واجهت مصاعب جمة خلال الفترة التي ضربت فيها جائحة كورونا العالم، ما دفع دول "مجموعة العشرين" برئاسة المملكة العربية السعودية، إلى تبني مقترح قدمته الرياض لتخفيف أعبائها، سواء عن طريق إلغاء نسبة منها، أو تعديل شروط السداد، أو حتى تخفيف الفائدة المفروضة عليها. وتبقى الدول النامية والفقيرة وتلك التي توصف بالأشد فقرا، الأكثر عرضة لخطرها، ما جعل الصين تهاجم في تحقيق لها الدول الغربية، على أساس أن هذه الأخيرة تكبل الدول المثقلة بالديون وتزيد من ضغوطاتها.
وتتصدر الدول الغربية قائمة أكبر الدائنين للقارة الإفريقية، ولعدد من الدول الآسيوية وهذه حقيقة معروفة. وهذه الديون ليست كلها مباشرة، بل عبر مؤسسات مالية دولية تسيطر عليها بصورة أو بأخرى الدول الغربية عموما منذ إطلاق نظام "بريتون وودز" في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وبحسب هذا التحقيق، فإن 75 في المائة من الديون الإفريقية تعود إلى مؤسسات مالية متعددة الأطراف، إضافة إلى دائنين تجاريين مستقلين.
والحق، أن الدول المدينة تعاني دائما أزمات اقتصادية جمة، تهدد بعضها بالانهيار. وحصل في العامين الماضيين، أن تخلفت ثماني دول عن السداد بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها منذ أعوام، أي أنها أزمات شبه مستدامة.
والسؤال المطروح هنا، هل هناك مأزق للديون؟ الجواب نعم، وبكل تأكيد، ولا يمكن الخروج منه إلا بالتفاهم بين الطرفين المعنيين، مع اتباع سياسات أكثر مرونة من جانب الجهات الدائنة، بما في ذلك إعادة الجدولة. لكن يبدو واضحا أن المسألة ليست حكرا على تحكم الدول الغربية في هذه الديون وحدها. فحتى الصين لديها نوع كبير في أرجاء العالم.
ووفق بيانات صينية محلية نشرت قبل شهرين تقريبا، فإن الصين ضاعفت قروضها أكثر من ثلاث مرات منذ 2010. واستنادا إلى البيانات نفسها، تجاوزت الديون التي قدمتها بكين 2.7 تريليون دولار حتى صيف العام الماضي.
الاتهامات المتبادلة بين الصين والدول الغربية في هذا الصدد ليست جديدة، لكن الجديد منها أن الأرقام الرسمية تظهر أن الطرفين، يسيطران على ديون بتريليونات الدولارات.
وتتعمق الأزمة مع تصاعد تكلفة الاقتراض، ويبدو واضحا أن الهيكل المالي العالمي عاجز عن معالجة ارتفاع أسعار الديون، خصوصا في الدول النامية وإفريقيا. وهذا ما يلفت الانتباه إلى دعوات أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيرا، ومعه أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة، بضرورة الوصول إلى نظام مالي عالمي جديد، يحل مكان ما هو قائم حاليا. المسألة برمتها تحتاج إلى إعادة النظر ولا شك تتطلب التفاهم المأمول بين الدول المؤثرة ماليا واقتصاديا في الساحة الدولية، فالبنك الدولي مثلا يشير إلى أنه في حال دمجت الديون الصينية الحكومية وتلك التابعة لمؤسسات صينية في بعض الدول المدينة (وليس كلها)، فإنها تقترب من حجم الديون الغربية عموما.
والملاحظ هنا أنه ستتضخم الأخطار إذا استمر ارتفاع أسعار الفائدة العالمية بسرعة أكبر من المتوقع وتعثرت مسيرة النمو، ومن شأن تشديد الأوضاع المالية بدرجة كبيرة أن يزيد الضغوط على أغلب الحكومات والأسر والشركات المثقلة بالديون، ونظرا إلى الآفاق المشوبة بعدم اليقين ومواطن الضعف المتزايدة، فمن الضروري تحقيق التوازن الملائم بين مرونة السياسات وسرعة التكيف مع الظروف المتغيرة والالتزام بخطط مالية موثوقة ومستدامة على المدى المتوسط. وهذه الاستراتيجية من شأنها الحد من مواطن التعرض لأخطار الديون وتيسير عمل البنوك المركزية لاحتواء التضخم.
وقد تحتاج بعض الدول -خاصة الدول ذات الاحتياجات التمويلية الإجمالية المرتفعة (مخاطر تمديد الدين) أو التعرض لتقلب أسعار الصرف- إلى التكيف بوتيرة أسرع للحفاظ على ثقة السوق والحيلولة دون حدوث تعثر مالي أكثر إرباكا. إن الجائحة وفجوة التمويل العالمية تتطلبان تعاونا دوليا قويا وفاعلا ودعما كافيا للدول النامية.
ولا شك في أن "هموم" الديون ترتفع في أغلبية الدول المقترضة، وأعباءها لا حدود لها، وظهرت جليا في الأزمات الأخيرة، كجائحة كورونا، والموجة التضخمية الحادة، وتراجع النمو، وتحولات سلبية في الإنتاج ناجمة عن التغير المناخي، وغير ذلك من عوامل كثيرة.
ولا شيء يمكن أن يخفف هذه الأزمة إلا بالتفاهم وليس عبر الاتهامات المتبادلة أو المواجهات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي