أعراض جانبية لاستهداف التضخم

تسعى دول العالم باستمرار إلى ضمان الأمن والاستقرار ورفع رفاهية شعوبها. وتأتي التنمية الاقتصادية المستدامة وعدالة توزيعها ونشرها بين الشرائح السكانية على رأس السياسات الضرورية لتعظيم رفاهية المجتمعات. ويتطلب النمو الاقتصادي المستدام استقرارا في الأسعار لخفض مخاطر تقلباتها وآثارها في قرارات الاستهلاك والإنتاج. وتتبنى بنوك الدول المركزية الرئيسة سياسات نقدية محددة لاستهداف معدلات تضخم منخفضة والحد من التقلبات السعرية قدر الإمكان. وكان بنك نيوزيلندا المركزي الأول في تبني سياسة استهداف معدل منخفض للتضخم عام 1990. بعد ذلك بدأت البنوك المركزية الرئيسة حول العالم تركز سياستها على استهداف معدلات تضخم سنوية منخفضة، تكون في الغالب بحدود 2 في المائة. وللوصول إلى المعدلات المستهدفة تستخدم البنوك المركزية أدواتها النقدية. ويأتي التحكم في معدل الفائدة الأساسية على رأس هذه الأدوات، إضافة إلى أدواتها الأخرى التي من أبرزها التيسير أو التشدد الكمي.
يدفع ارتفاع معدلات التضخم البنوك المركزية إلى اتباع سياسات التشدد النقدي التي تستهدف خفض السيولة في الأسواق، ورفع تكاليف الائتمان. ويعتقد أن سياسات التشدد النقدي المتبعة حاليا تقود إلى فرملة الاقتصادات، والحد من الطلب الكلي، وإضعاف معدلات النمو الاقتصادي. وترفع زيادة الفائدة والحد من السيولة تكاليف الاستثمار والاستهلاك في الاقتصاد ككل، لكن تأثيراتها في الشرائح السكانية ليست متساوية.
يعتقد أن الفئات الأقل حظا أو دخلا تعاني غلاء الائتمان بشكل أكبر من الفئات الأخرى الأوفر حظا. وتتأثر الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا بدرجة أكبر من تراجع الطلب، وضعف الاستثمار الكلي، من الشرائح السكانية الأخرى، حيث تفقد وظائفها بوتيرة أسرع وأكثر، وتعاني أجورها الجمود بشكل أكبر. إضافة إلى ذلك، تعاني الشرائح السكانية الأقل دخلا التمييز في أسواق الائتمان، فهي الأولى تأثرا بتراجع السيولة، حيث تخفض المؤسسات المالية مخصصاتها لمنخفضي الدخل ومؤسساتهم وأدواتهم الإنتاجية أكثر من الشرائح الأجدر ائتمانيا. كما قد تواجه هذه الشرائح معدلات فائدة أعلى من غيرها، نظرا إلى ارتفاع المخاطر في قروضها في وقت الأزمات الاقتصادية بدرجة أكبر. ونتيجة لذلك تحرم الشرائح السكانية الأقل دخلا بشكل متزايد -وقت الأزمات الاقتصادية- من اقتناء وسائل الإنتاج، وتطوير مؤسساتها الصغيرة والصغيرة جدا، وكذلك تزداد صعوبة امتلاكها السلع المعمرة ووسائل النقل والمساكن، ما يفاقم الفقر وعدالة توزيع الدخل والثروة. ويتطلب التغلب على الآثار السلبية الحادة لنقص الائتمان المقدم لمنخفضي الدخل والمؤسسات الصغيرة تبني برامج دعم ائتمان متخصصة.
في الجانب المقابل وعند تراجع النشاط الاقتصادي وتدني معدلات التضخم دون المعدلات المستهدفة وخوفا من كساد الأسعار، تتوسع البنوك المركزية في السيولة، كما تخفض معدلات الفائدة ما يوفر الائتمان الرخيص، وذلك كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية. وتستفيد الشرائح السكانية الأغنى في المجتمع بدرجة أكبر من تراجع معدلات الفائدة، وتحصل على الائتمان بشروط أفضل من الشرائح السكانية الأخرى. ويقود توافر السيولة ورخص الائتمان لمرتفعي الدخل إلى تدفق السيولة بقوة تجاه الأسواق المالية، ويسهم في تضخم أسعار الأصول والمضاربات المالية. وقد تنتج عن هذه الممارسات فقاعات في أسعار الأصول. وتتبع الفقاعات عند انفجارها آثار سلبية وربما كارثية على الاقتصاد، وتدفع البنوك المركزية والحكومات إلى تخصيص موارد ضخمة لإنقاذ الاقتصادات من الانهيار. حتى لو لم تنفجر الفقاعات، فإن تصاعد أسعار الأصول يضخم ثروات الأعلى دخلا في البلاد وترتفع نسب استحواذهم على الثروة والدخل، ما يسيء إلى عدالة توزيع الثروة والدخل وذلك كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية. ومع مرور الوقت قد تتسرب من تضخم أسعار الأصول آثار تضخمية على السلع الاستهلاكية، خصوصا السكن والإيجارات، والذي يخفض رفاهية السكان الأقل دخلا.
قد تؤثر سياسات استهداف التضخم في استقرار أسعار الصرف. ويؤدي خفض معدلات الفائدة، إلى التأثير سلبا في أسعار الصرف، ما يرفع تكاليف الاستيراد. وترتفع في الدول المعتمدة على الاستيراد معدلات نفاذ تغيرات أسعار الصرف ما يرفع معدلات التضخم داخلها. من ناحية أخرى، فإن رفع معدلات الفائدة يقود في العادة إلى رفع أسعار الصرف، الذي يؤثر سلبا في الصادرات. وكلما ارتفعت أهمية الصادرات للاقتصاد ازدادت في هذه الحالة التأثيرات السلبية في النمو الاقتصادي.
يلوم كثيرون البنوك المركزية على التركيز الكبير على سياسات استهداف التضخم، لأنها قد تتعارض مع النمو الاقتصادي. فسياسات التشدد النقدي عند ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، قد تقود إلى الركود الاقتصادي، ورفع معدلات البطالة. ويرى البعض أن بعض مظاهر عدم الاستقرار في عدد من الدول المتقدمة يعود ولو جزئيا، إلى سياسات التشدد النقدي التي تغض الطرف عن الإشكالات التي تواجه المجتمعات، وتسيء إلى عدالة توزيع الدخل والثروة فيها.
بالنسبة إلى الدول النامية، فإن سياسات استهداف متشددة لمستويات متدنية للتضخم قد لا تكون مناسبة على الدوام للتنمية الاقتصادية، نظرا إلى انخفاض جودة البيانات الاقتصادية، وتراجع كفاءة الأسواق المالية. وقد يكون من الأولى للدول النامية السماح في بعض الأحيان بمعدلات تضخم أعلى قليلا من 2 أو 3 في المائة لتحقيق معدلات نمو أفضل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي