العقارات والبنوك .. الأزمة متشابكة
كان التحذير واضحا الذي حمله تقرير الاستقرار المالي نصف السنوي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بشأن أزمة محتملة في قطاع العقارات التجارية، وأن تقييمات العقارات التجارية لا تزال مرتفعة، ما يشير إلى أنه يمكن أن يكون هناك تصحيح كبير في قيم الممتلكات، وقد وجد الاحتياطي الفيدرالي أن البنوك تمتلك نحو 60 في المائة من قروض العقارات التجارية، وثلثا تلك القروض لدى مقرضين أصغر لديهم أصول أقل من 100 مليار دولار.
وجاء في السياق نفسه، تحذير آخر من قبل تشارلي مونجر، صديق الملياردير وارن بافيت وشريكه الاستثماري، من عاصفة تتشكل في سوق العقارات التجارية الأمريكية، حيث تزخر البنوك الأمريكية بما قال إنها "قروض معدومة"، مع انخفاض أسعار العقارات.
لكن رغم هذه التحذيرات، فإن المشكلة لم تتضح تماما، وهل هي متعلقة بما حدث من انهيارات في بعض البنوك التي فقدت فجأة معظم الودائع بسرعة، أم هي مشكلة تتعلق بارتفاع أسعار الفائدة المستمر في مواجهة التضخم.
مشكلة السوق العقارية التجارية في الولايات المتحدة ليست متعلقة بهذه القضايا بشكل مباشر، بل بسلوك المستهلكين لهذه العقارات، لقد تغير العالم بعد كورونا، وهذه واحدة من أبرز المتغيرات، فلقد أشار تحذير "الفيدرالي" بوضوح إلى أن المشكلة تتعلق باستمرار اتجاهات الشركات إلى تفضيل العمل عن بعد، ما جعل الطلب ينخفض بشكل استراتيجي على العقارات التجارية، وهذا قاد إلى انخفاض مستمر في الأسعار وقد يكون دائما، وفي ضوء ذلك فإن شبح الأزمة المالية قد يعود ولو كان بحدة أقل مما سبق، فالبنوك التي قدمت تمويلات ضخمة للشركات العقارية التي استثمرت في هذا القطاع، تواجه اليوم أزمة رهن أخرى، فالعقارات التجارية المرهونة سيعاد تقييمها مرة أخرى خلال هذا العام، وفقا لما تقضي به المعايير المحاسبية ذات الصلة، وبالتالي فإن الرهون ستنخفض لأن أسعار العقارات قد انخفضت بالفعل وعلى مستويات مختلفة على طول الأراضي الأمريكية، وقد يكون ذلك صحيحا حتى على مستوى العالم أجمع، وفي حالة كهذه فإن ديون الشركات التي استثمرت في هذا القطاع قد أصبحت في خانة الديون السيئة.
يقول مونجر، وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية" بهذا الخصوص، واصفا حجم المخاطر الكامنة في محافظ البنوك الضخمة من قروض العقارات التجارية، "إن كثيرا من العقارات لم تعد جيدة، وهناك كثير من مباني المكاتب ومراكز التسوق المتعثرة، وإن البنوك بدأت تتراجع بالفعل عن إقراض مطوري العقارات التجارية".
ليست هذه هي المشكلة الوحيدة التي تواجه السوق العقارية التجارية، فمع ارتفاع أسعار الفائدة سيكون الوصول إلى تمويل جديد أمرا بالغ الصعوبة في ظل هذه التحفظات كلها على القطاع، وقد أشار تقرير الاحتياطي الفيدرالي إلى ذلك بوضوح، فالقفزة الحادة في تكاليف الاقتراض خلال العام الماضي تزيد من خطر عدم تمكن مقترضي الرهن العقاري التجاري من إعادة تمويل قروضهم عند استحقاقها. وقد أوردت وكالة الأنباء العالمية "رويترز" تصريحا للرئيس التنفيذي لشركة RXR، وهي شركة تطوير عقاري كبيرة، قال فيه "إن هناك 1.5 تريليون دولار من الديون العقارية التجارية المقرر استحقاقها في الأعوام الثلاثة المقبلة، وقد تم تمويل الجزء الأكبر من هذا الدين عندما كانت أسعار الفائدة الأساسية بالقرب من الصفر".
والملاحظ هنا أنه تجب إعادة تمويل هذا الدين في بيئة تكون فيها المعدلات أعلى والقيم أقل، وفي سوق ذات سيولة أقل. وتشير تقارير مختصة إلى أن ذراع الرهن العقاري التجاري لمجموعة بلاكستون قد رفعت تقديراتها لخسائر الرهن العقاري من نحو 125 مليون دولار في نهاية 2021 إلى 326 مليون دولار العام الماضي، كما ارتفعت خسائر قروض Bank OZK المتوقعة بأكثر من 25 في المائة خلال تلك الفترة من 289 مليون دولار إلى 365 مليون دولار.
وفي ظل الركود الذي أصبح أكثر احتمالا، فإن القلق بشأن مدى جدوى الاستثمار اليوم أصبح شائعا، وفي هذا وصف موجز للرغبة في الاستثمار في هذه الحقبة مع ارتفاع الفائدة بالأمر بالغ الصعوبة، بل يرى - في نظرة تشاؤمية - أن العصر الذهبي للاستثمار قد انتهى.
وإذا كانت المشكلة واضحة الآن بشأن العقارات التجارية التي تتلخص في انخفاض حاد في الطلب، ما يجعل الأسعار منخفضة بشكل دائم، إلا أن ذلك قد يمتد إلى باقي القطاع العقاري عموما والسكني منه خصوصا مع حال ضعف الشهية العامة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، وما يقابل ذلك من صعوبات في إعادة التمويل، فإن مشكلة رهن عقارية قادمة مع إعادة تصحيح قيم العقارات في جميع الشركات الأمريكية، وفي حال كهذه يبقى السؤال صريحا بشأن انكشاف البنوك العالمية على هذه الأزمة المتوقعة، خاصة أن المسألة تتعلق بالوقت فقط، ما يجعل الحاجة ماسة إلى مزيد من الشفافية بشأن مدى تعرض أسواق العقارات عموما للمشكلات المتعلقة بانخفاض الطلب وتغيير عادات المستثمرين، ومآلات ذلك على القطاع البنكي.