إدارة المخاطر وإخفاقات المراجعة

كما نعلم أن بنك سيليكون فالي انهار بعد 14 يوما فقط من قيام شركة المراجعة العالمية كي بي إم جي KPMG بإصدار تقرير غير معدل "دون تحفظ"، والأمر ذاته حصل مع بنك سجنتشر الذي أفلس بعد 11 يوما من منح شركة المحاسبة تقريرها غير المعدل للبنك، ثم تلى ذلك انهيار البنك الثالث في غضون وقت قصير من حصوله أيضا على تقرير غير معدل من الشركة العالمية نفسها، وهذا يلقي بظلال من الشك حول قدرة هذه الشركة على مراجعة البنوك والشركات ذات العمليات المعقدة، لكن هذا الاتهام ليس جديدا على هذه الشركة المختصة في أعمال مراجعة الحسابات البنكية والمالية ولا على المهنة ككل، فقد تعرضت عديد من الشركات العالمية منذ فترة الكساد العالمي 1929 لكثير من هذه الإخفاقات طوال القرن الماضي والعقود الأولى من هذا القرن، وكلما تعرضت الأسواق المالية للانتكاسات وانكشفت الشركات على مخاطر الإفلاس تظهر الأسئلة حول مسؤوليات المراجع الخارجي.
وقد أشارت تقارير مهنية إلى أن 2022 كان عاما قياسيا من العقوبات المالية والقضايا التي تعرضت لها شركات المراجعة العالمية الكبرى، وبلغ مجموعها 46.5 مليون جنيه استرليني خلال 2021-2022، وذلك في بريطانيا وحدها وفقا لتقرير منشور، وتعرضت شركة EY إحدى الشركات العالمية الكبرى في مجال المراجعة الخارجية لغرامة قياسية بقيمة 100 مليون دولار من الحكومة الأمريكية بعد أن اكتشف المنظمون أن الشركة كانت تعلم أن بعض مدققي حساباتها كانوا يغشون في الامتحانات لعدة أعوام ولم تفعل شيئا لإيقافهم، وأمرت هيئة السوق المالية الشركة أن تقوم بتعيين مستشارين مستقلين "لمعالجة أوجه القصور"، وهي خطوة عدت تحولا مهما في مجال حوكمة أداء هذه الشركات.
بعد أزمة الكساد العالمية 1929، أصبح المراجعون معرضين للمقاضاة من أطراف ثالثة لم تكن ضمن عملية التعاقد الرئيسة، ومنذ ذلك الحين وهناك بون شاسع في وجهات النظر بين المراجعين والمجتمع الاقتصادي، فالمجتمع يطالب ويتوقع من المراجع كشف جميع الأخطاء بينما يدعي المراجعون أن عملية المراجعة محدودة بتكاليف ووقت وليس في الاستطاعة على أي حال مراجعة جميع مستندات ووثائق الشركة، فإذا أضفت إلى ذلك أن المعايير المحاسبية التي تقوم عليها القوائم المالية تقدم مجالا رحبا من الأرقام التي تخضع لتقديرات إدارة الشركة عند تثمين ممتلكاتها، فإن النتيجة هي قوائم مالية غير مثالية وليست مرآة حقيقية لكل ما حصل للشركة خلال الفترة الماضية، بل هي أقرب تقدير ممكن للواقع، المشكلة الأكثر تعقيدا هي أن القرار الاستثماري الذي تسبب في الفشل لم يتخذه المراجع ومع ذلك فإنه يحاسب عليه، هو قرار يتعلق بالمستقبل وليس الماضي، بينما القوائم المالية التي دققها تتحدث عن ماض وليس مستقبلا، إنها إحدى القضايا الشائكة في المراجعة ذلك أن المستثمرين يريدون من المراجع الخارجي تأكيد قدرة الشركة على الاستمرار لعام واحد على الأقل، وهذه المعلومة في غاية الأهمية للقرار الاستثماري في الشركة أو إقراضها، لأن المستثمر الجديد يتوقع وقتا كافيا لإعادة تقييم استثماراته وفق ما وعدت به الشركة من تدفقات نقدية، هذا الوعد بالاستمرار لمدة عام يأتي مع ما تؤكده القوائم المالية التي معها تقرير مجلس الإدارة وتقرير المراجع الذي توجها بالثقة، لذلك عندما تنهار الشركة أو تفلس بعد صدور كل هذه الضمانات والوعود بعد أقل من شهر "14 يوما كما في قضية بنك سيليكون فالي"، فإن من حق المستثمرين البحث عن تعويض ممن تسبب لهم في تلك الخسارة، وفي الأغلب ما يكون مراجع الحسابات في المرمى تماما، كما حدث مع البنوك الثلاثة، وإذا كانت مسألة التعويضات رائجة في عالم المراجعة الخارجية فإن وقوع شركة واحدة في فخ انهيار ثلاثة بنوك معا وفي وقت واحد، هو مدعاة للشك في قدرة الأدوات المهنية المتوافرة لها على تقدير قدرة الشركات على الاستمرار.
لقد برر رئيس شركة كي بي إم جي في الولايات المتحدة موقفها من انهيار البنوك الثلاثة عندما قال إن "الأحداث التي تحركها السوق" في الأيام الفاصلة أدت إلى إخفاقات البنوك، وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا عن هذه المسألة تقول أستاذة مختصة في قسم المحاسبة في جامعة ولاية كارولينا الشمالية أيه آند تي، "لا يمكنك أن تتوقع من جهات المراجعة أن تعلم أن هناك عملية سحب ودائع كبرى مقبلة"، لكن إجابات مثل هذه قد تسبب موجة من الذعر خاصة إذا كانت كي بي إم جي هي الشركة التي تراجع أكبر نسبة من شركات من النظام المصرفي في العالم إضافة إلى كونها المراجع الخارجي لحسابات لدى ولز فارجو وسيتي جروب وبنك نيويورك ميلون وعشرات من البنوك الأخرى المدرجة في السوق الأمريكية، وتقوم أيضا بتدقيق حسابات الاحتياطي الفيدرالي، فإذا لم يكن لدى الشركة القدرة على التقدير والتنبؤ بحركة الأسواق وتأثيرها في قدرة أي بنك على الاستمرار، فما هي الفائدة من قراءة تقريرها، وما هو الحال فعلا في مصداقية هذه البنوك جميعا؟ هنا تبدو المسألة بحاجة إلى تطوير جذري في معايير الأداء المهني بما يمكنها من تقدير جيد للمخاطر المحيطة بأي عميل، وهذا ما أكدته قضايا البنوك الثلاثة، من أن تقييم الخطر لم يتم بإجراءات صحيحة، وقدرة موظفي شركة المراجعة لم تكن مناسبة بما يكفي لذلك، وهنا شك كبير فيما إذا كانت لديهم المهارات المناسبة للحكم على جودة البيانات المالية في بيئة تغيرت تغيرا كبيرا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وكان هناك سؤال حول ما إذا كانت كي بي إم جي قد قيمت هذه المخاطر وغيرها بشكل صحيح عند التخطيط لمراجعتها حسب قول خبراء المحاسبة.
وقد كشف تقرير الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع الماضي عن نقاط الضعف في إدارة المخاطر ومهام المراجعة الداخلية لدى بنك سيليكون فالي، وكلاهما كان يحتاج إلى تقييم من مراجعي الحسابات الخارجيين والتحفظ بشأن ذلك، وتأكيدا على ذلك يخطط مجلس مراقبة حسابات الشركات العامة لتكثيف عمليات الفحص مرة أخرى في قطاع الخدمات المالية، وسيركز على ما إذا كان ينبغي إجبار البنوك على الإفصاح عن مزيد من مخاطر السيولة والأحداث التي وقعت نهاية العام المالي. بهذا يتضح أن المخاطر وإدارتها ستكون لها كلمة الفصل في الحكم على مدى قدرة أي شركة على الاستمرار وليس مجرد وعد إدارة الشركة بذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي