الإنفاق العسكري يحلق في الآفاق
ليس غريبا ارتفاع وتيرة الإنفاق العسكري حول العالم، في ظل حروب ومواجهات جيوسياسية، وسباق في ميدان التسلح يتصاعد أيضا بزخم كبير في الأعوام القليلة الماضية. فلم يتراجع هذا الإنفاق إلا في الأعوام الأولى من تسعينيات القرن الماضي، وهذه الفترة شهدت بالفعل انفراجا دوليا واسعا، ناتجا أساسا عن تداعيات تفكك الاتحاد السوفياتي، رغم أن العقد المشار إليه شهد حربا لم تكن قصيرة في منطقة البلقان، إلا أنه كان هناك شبه اتفاق دولي على أحقيتها وضرورتها لحل أزماتها. والإنفاق العسكري الذي يدخل بالطبع في نطاق حماية الأمن القومي لكل دولة، لا يتعرض عادة للانتقادات المحلية، بينما تأتي هذه من الجهات المناوئة للحروب والصراعات عموما، بصرف النظر عن أي مبررات. لذلك تسير وتيرة شراء السلاح بانسيابية محلية وعالمية، مع بعض المنغصات التي لا تخرج عن نطاقها الصوتي.
في العام الماضي، ارتفع حجم الإنفاق العسكري العالمي وفق معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري"، إلى 2.24 تريليون دولار، بزيادة بلغت 3.7 في المائة عن 2021. ولا شك أن السبب الأول لهذا الارتفاع يعود إلى متطلبات الحرب في أوكرانيا في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية لها. فأوروبا التي تقف بقوة إلى جانب هذا البلد، شهدت أعلى زيادة لها في إنفاقها العسكري منذ أكثر من ثلاثة عقود. يضاف إلى ذلك، أن حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تقبع روسيا على حدود دوله، يعزز بالضرورة من قدراتها العسكرية، في ظل خطط لا تتوقف عن توسيع نطاقه ليشمل مزيدا من الدول في المستقبل. أي أن ارتفاع حجم الإنفاق العسكري العالمي له مسببه الأول المباشر، لكنه ليس الوحيد في ظل التسابق على التسليح في مناطق تعج بالخلافات والمواجهات الجيوسياسية.
كل توقعات الجهات المختصة، تشير إلى مواصلة زيادة وتيرة الإنفاق العسكري في الأعوام المقبلة. فقد كان الارتفاع في العام الماضي الثامن على التوالي، وبفارق لافت عن 2021 الذي سجل 2.11 تريليون دولار. وهذا أيضا له رابط أساسي بالحرب في أوكرانيا، حيث ضاعفت هذه الأخيرة إنفاقها العسكري "بحسب سيبري" سبع مرات إلى 44 مليار دولار، أو ما يوازي ثلث ناتجها المحلي الإجمالي. في حين زاد إنفاق روسيا في العام الماضي 9.2 في المائة. ورصدت موسكو موازنة عسكرية طارئة، دفعتها للتحرك في كل الاتجاهات لتمويلها، عبر تفعيل صادراتها وعقد صفقات مع جهات بعيدا عن العقوبات الغربية الهائلة المفروضة عليها. أي أن الإنفاق الروسي سيتواصل بقوة على الأقل حتى تنتهي الحرب في أوكرانيا.
وبعيدا عن التقديرات التي أصدرتها منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو"، بأن الأموال التي ترصد للتسلح هنا وهناك كفيلة بإطعام مليار جائع حول العالم. فهذه الأموال تشكل ما يقرب من 2.2 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن المتوقع أن تصل إلى مستويات قياسية أيضا في الأعوام القليلة المقبلة. فحتى أوروبا التي تلتزم عادة بميزانيات عسكرية متواضعة قياسا بناتجها المحلي الإجمالي، أنفقت العام الماضي ما يزيد على 480 مليار دولار على التسلح، في حين تسعى الحكومات فيها إلى الحصول دائما على موافقات برلماناتها لرفع حجم هذه الميزانيات. فبريطانيا "مثلا" التي تعاني أسوأ وضع اقتصادي بين دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى، قررت رفع إنفاقها بما يوازي 100 مليار استرليني بحلول 2030.
وفي اليابان، ستضاعف الإنفاق الدفاعي إلى 2 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، ليس على مدى عام واحد، بل على مساحة خمسة أعوام. في حين أن حجم الإنفاق الصيني في هذا المجال سجل ارتفاعا في العام الماضي بلغ 7.1 في المائة، مع تخصيص 230 مليار دولار للدفاع الوطني. من هنا، فإن الحجم العالمي لهذا الإنفاق سيشهد قفزات كبيرة في الأعوام القليلة المقبلة. ولا شك في أن الموازنات العامة لكثير من الدول ستتأثر سلبا، بما فيها دول متقدمة تواجه مصاعب على الصعيد الاقتصادي تركتها مستويات التضخم الهائلة، وديون حكومية بلغت في عدد ليس قليلا من هذه الدول أكثر من حجم ناتجها المحلي الإجمالي، بما في ذلك بريطانيا واليابان وإيطاليا وغيرها.
لا يمكن النظر إلى التسلح وارتفاع وتيرته بصورة كبيرة، إلا عبر الصراعات الجيوسياسية والمخاوف المتصاعدة من نشوب نزاعات طويلة الأمد هنا أو هناك. وهذه الصراعات لا يبدو أنها ستنتهي قريبا، مع تفاقم الخلافات بين الدول المؤثرة في الساحة الدولية، إلى درجة أن حدثت استعراضات عسكرية خطيرة بين الولايات المتحدة والصين في الآونة الأخيرة، فضلا عن استمرار الحرب في أوكرانيا، وهي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. ولا توجد أي مؤشرات لانفراجات مقبلة. وعلى هذا الأساس، فإن الموازنات العسكرية ستشهد مزيدا من التضخم، خصوصا أن الحجج السياسية لها موجودة، ما يساعد الحكومات على تمريرها ضمن المؤسسات الديمقراطية ذات الصلة، حتى لو كانت تكاليف تجنب مجاعة عالميا بحسب "فاو" لا تكلف سوى سبعة مليارات دولار سنويا فقط.