السياسة النقدية في ظل عالم متغير «4 من 4»

أدت عمليات الشراء الكبيرة لأصول القطاع الخاص إلى تضخم الميزانيات العمومية لهذه البنوك، ولم يتوقف هذا التوسع إلا عند انتهاء الأزمة لأنها خشيت أن يتسبب التعجيل بذلك في إلحاق الضرر بالاقتصاد. وأدت الرغبة في الإبقاء على ميزانيات عمومية كبيرة إلى تراكم دين القطاع الخاص، وتقلص فروق أسعار الائتمان، وتشوه إشارات الأسعار، وارتفاع أسعار المساكن بسبب زيادة الإقراض العقاري. وأصبح القطاع الخاص يعتمد على السيولة التي توفرها البنوك المركزية، واعتاد العمل في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة. بل إن الأسواق المالية باتت تتوقع أن تتدخل البنوك المركزية دائما عندما تسجل أسعار الأصول انخفاضا كبيرا. ولأن القطاع الخاص أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على البنك المركزي، فقد يكون التأثير الانكماشي لإجراءات استعادة الأوضاع العادية للميزانيات العمومية في البنوك المركزية أكثر وضوحا بكثير من تأثير دفعة التحفيز الناتجة عن إجراءات التيسير الكمي. ومن غير الواضح حتى الآن أي مشكلات يمكن أن تواجه القطاع المالي عندما يحدث تغير مفاجئ في بيئة السياسة النقدية، بيد أن الخسائر المحتملة التي واجهتها صناديق معاشات التقاعد في المملكة المتحدة في 2022 تمثل إنذارا صارخا. فقد استخدمت تلك الصناديق أساليب كان من المحتمل أن تؤدي بعد توقف العمل بها إلى تشوهات خطيرة في أسعار الفائدة على المدى الطويل، وإشعال أزمة أكبر. واضطر بنك إنجلترا إلى التدخل لشراء السندات البريطانية للحيلولة دون حدوث أزمة بعد ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل.
واليوم، في بيئة تجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، يتعارض هدفاها المتمثلان في استقرار التضخم والاستقرار المالي. فقد أدى اعتماد القطاع الخاص، ولا سيما أسواق رأس المال، على السيولة من البنوك المركزية، إلى موقف تظهر فيه هيمنة القطاع المالي، حيث تكون السياسة النقدية مقيدة بسبب المخاوف المتعلقة بالاستقرار المالي. ففي مثل هذه البيئة، قد يحدث تشديد السياسة النقدية فوضى في القطاع المالي، ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة للتأثر حتى بالاضطرابات البسيطة. ويعتمد مدى هيمنة القطاع المالي على ما إذا كانت البنوك الخاصة تتمتع برسملة كافية بحيث تتحمل الخسائر، وعلى سلاسة إجراءات إفلاس البنوك الخاصة. ومن شأن وجود قانون فاعل للإعسار أن يعزل النظام عن أثر التداعيات الناجمة عن فشل أي مؤسسة منفردة، وأن يحد من احتمال أن يشعر البنك المركزي بالاضطرار إلى التدخل لإنقاذها. وتجعل هذه القضايا من الصعب على البنوك المركزية تخفيض التضخم دون التسبب في حالة ركود ـ كما أنها تضعف إلى حد ما من استقلاليتها الفعلية.
وتدعو هذه المشكلات إلى إعادة النظر في كيفية تفاعل السياسة النقدية مع الاستقرار المالي. فمن الأهمية بمكان أن تهدف البنوك المركزية إلى استعادة إشارات الأسعار بسلاسة في الأسواق الخاصة التي تدخلت فيها بشكل مفرط. وينبغي لها أيضا أن تدرك أن هناك دائما مفاضلات بين هدفي استقرار الأسعار والاستقرار المالي ــ حتى إن لم يظهر هذا التجاذب إلا على المدى الطويل. ويؤدي تراكم الميزانيات العمومية للبنوك المركزية إلى تشوهات مالية، وإلى تقييد إجراءاتها في المستقبل. وينبغي للبنوك المركزية أن تستشرف هذا التجاذب وتفرض قدرا أكبر من الإشراف الاحترازي الكلي ـ أي التنظيم الذي لا يقتصر تركيزه على سلامة فرادى المؤسسات، كما كان المستهدف من التنظيم المالي تاريخيا، بل يمتد إلى ضمان سلامة النظام المالي ككل. ومثل هذه الرقابة الاحترازية الكلية المعززة ينبغي أن تركز بشكل خاص على مراقبة توزيعات الأرباح وتراكم المخاطر في أسواق رأس المال غير المصرفية.
أخيرا، يتعين على البنوك المركزية إعادة النظر في الأدوار التي تؤديها بوصفها جهات إقراض وصناع سوق تمثل الملاذ الأخير، وضمان أن تكون أي تدخلات مجرد إجراءات مؤقتة. وعلى البنوك المركزية أيضا أن تركز على الإفصاح عن إطار السياسة النقدية الذي يمهد أوضاع السيولة دون أن يؤدي إلى عمليات شراء أصول دائمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي