Author

ما بين الإيثار والإكثار

|

إن القيم الساكنة في النفوس مسؤولة عن مخرجات التفكير والسلوك والحاكمة في فهم وإدراك المواقف والتجارب، وهذا ما يجعل البشر مختلفين حتى في تفسير الأمثال التي تعد مخازن المجموعات البشرية فقالت العرب في الإيثار "لا تكن مثل الإبرة تكسي الناس وهي عريانة"، ويرى الباحث عبدالكريم الجهيمان أن الإبرة تغزل وتكسي ولا تكتسي، وذهب آخرون إلى تفسير آخر كما في قول الشاعر محمد القاضي "مثل إبرة عريانة دب دهرها ** وهي تكسي المخلوق من قمش الأصناف" ويراد به البخل والتقتير على النفس مع القدرة. والشاهد أن قيم الشخص وتجاربه تنعكس على طريقة فهم وتفسير الأشياء، وبناء عليه يظهر في السلوكيات القولية والفعلية، ومثالنا السابق يعلم الأخذ بقيمة الإيثار ولا يتسنى تطبيقه على الوجه المطلوب، إلا إذا نبذنا أضداده وهو ما نبه عليه المثل من الابتعاد عن البخل والشح ولا معارضة بين المعنيين كما أنه لا يوجد تضاد، بل متلازمان والمغزى بينهما هو الاتزان بين العطاء بإسراف لأجل الجاه و"الشو" أو عطاء عن كره تحاشيا لمخالفة العادات والتقاليد أو نحوه.
إن التوازن مطلوب بين الإيثار والإكثار أو ما يمكن تسمية الأخير في وقتنا الراهن المجاملة حتى لا يكون المؤثر على نفسه كلا على الناس من بعد الغنى وذليلا بعد عز ومحتاجا بعد أن كانت سفرته مائدة طويلة للئام. هناك فرق كبير بين المعطي عن غنى أو ذاك الذي عن عوز، فالأول يعطي بمشاعر الحب والرغبة في المنح والبذل ويعطي عطاء من لا يخشى فاقة وأما عطاء الفقير فمن باب الخوف من النقد الاجتماعي ونظرة يخشاها تزيد بؤسا إلى بؤس.
من الأسس الحياتية أن الأخذ قيمة مقرون بالعطاء فالطفل يأخذ من صحة أمه وعمرها ولكنه يمنحها الحب والبر والموظف يأخذ مقابل وقته وخبرته وعطائه، وهكذا، ومن المتعارف عليه أن نشر ثقافة العطاء يكسب الرضا "ولسوف يعطيك ربك فترضى" وأفضل العطاء خصوصا في هذا الشهر الفضيل الذي يبدأ بالنفس والأهل والعشيرة الأقربين، ثم إلى الدائرة الأوسع ومن عظيم ما قيل أن أي مجتمع يحظى بفكرة الإيثار هو مجتمع قوي وإذا سادت قيمة الإيثار في حياة أفراد المجتمعات، أفرزت أناسا يرعون الجميع، ونفوسا صحية منتجة وإيجابية ولا تزيد الأنفس إلا براءة فوق براءتها، ولا يعمق فيها إلا كل ما هو طيب، ولا يسكن الإيثار قلوبا حاسدة للحب حاشدة للكره.

إنشرها