معركة الجدران العازلة
يحدثنا التاريخ أن الممالك في سحيق الزمان كانت تعرف بعلو وشموخ ومنعة الأسوار أو الجدران التي تحيط بحواضرها المهمة. ومن الممالك من شيد أسوارا لا تعزل المدن فحسب، بل حدود المملكة التي قد تمتد إلى مئات أو آلاف الكيلومترات. ويحضرني في هذه العجالة سور الصين العظيم الذي حسب موسوعة المعارف البريطانية، يمتد إلى مسافة 2120 كليومترا، أي: ما يغطي نصف قطر الكرة الأرضية، وهو من عجائب الدنيا السبع.
وإن أخذنا أطوال الأسوار في الحسبان، فإن جدار برلين الذي تم تشييده وإزالته في عصرنا هذا، يعد ثاني أطول جدار في التاريخ، حيث كان يمتد إلى مسافة 120 كيلومترا. فهناك جدران أو أسوار كثيرة في التاريخ، وأنا لست في وارد تقديم سرد لها. غايتي هي عرض وتفكيك المفاهيم الفكرية والفلسفية التي ترافق مفهوم الجدار أو السورأو الحائط في واقعنا الاجتماعي الذي نعيشه.
وسأستخدم مفردات "الجدار والسياج والسور والحائط" معا في هذا المقال، رغم أن المعاجم العربية تميز بينها. "الجدار" هو الحائط. الغرفة الواحدة لها أربعة حيطان. أما "السور" فهو كل ما يحيط بشيء إن كان بناء أو مساحة. والسياج قد يكون من الشوك أو أعواد الأخشاب. واستخدام المفردات الأربع، رغم تباين المعنى بينها، لا يعني أنه ليست هناك قواسم مشتركة تجمعها إن درسنا بعناية وتركيز السياق الذي ترد فيه.
هنا أشير ليس إلى الشرح المعجمي للمفردة عمومت، بل إلى المعنى الكامن الذي تواجهنا فيه عند قراءتها ضمن الجملة والسياق الثقافي والفكري والاجتماعي الذي ترد فيه.
المفردة أم العبارة أم الجملة، لا بل اللغة برمتها، تنشط وتستعيد الحياة ضمن السياق الذي ترد فيه. وجودها في المعجم يشبه السبات الشتوي للحيوانات التي لا نراها ولا نلاحظ أي نشاط لها إن لم تخرج من سباتها. المفردة في سبات، وتعود إلى الحياة حال خروجها منه، أي: عند استخدامها ضمن السياق الذي يرافقها.
وتطرقنا إلى الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين وألاعيبه اللغوية. وفيتجنشتاين فيلسوف اللغة ربما دون منازع، لأنه يربط المعنى بالوظيفة. يعلمنا فيتجنشتاين أن مفردات أي لغة محدودة بينما الألاعيب اللغوية التي توظفها لا يمكن عدها وحصرها. وإن أخذنا مفردات من مثل "السياج، الجدار، السور، الحائط" ومنحنا لكل مفردة وظيفة محددة وجعلنا منها أداة فكرية، لرأينا أن بإمكاننا أن نستقي معاني ربما لا حد لها.
"سور الصين" عبارة ووظيفة ذهنية وفكرية لها مدلولات خاصة عند قراءتها. الشكل واحد، أما المعاني والوظائف فاختلفت باختلاف السياق. وإن قلت، "بينك وبين امتلاك ناصية العلم والمعرفة سور الصين العظيم" لاختلفت قراءتنا للسور اختلافا جوهريا ولكان للمفردة وظيفة مختلفة لأنني أردت بها أداة تقوم بوظيفة أو وظائف مثل التشكيك أو النقد أو التساؤل وهلم جرا. وإن قلت "إنك تخرق سياج القانون" لاختلفت قراءتنا للسياج ومنحتنا الجملة معاني مختلفة وصارت أداة ننفذ فيها وظائف مختلفة.
وفي لقاء لي مع محررين وصحافيين في هيئة الإذاعة البريطانية، أكدوا أنهم يعانون كثيرا في اختيار المفردة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتغطية الشرق الأوسط. وذكروا أن هناك ضغوطا كبيرة على الهيئة لانتقاء هذه المفردة وليست تلك، ولا سيما عند نقل الأخبار عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ومما ذكروه، أنهم كانوا في حيرة من أمرهم واستغرق اتخاذ القرار أياما مضنية من الاجتماعات كي يختاروا أي مفردة عليهم استخدامها لوصف الجدار الذي بنته إسرائيل للفصل بينها وبين الفلسطينيين.
الإنجليزية، شأنها شأن العربية، لديها مفردات عديدة عند الإشارة إلى السور، barrier، wall، fence. بين المفردات الثلاث، كادت هذه الهيئة المؤثرة والكبيرة تضيع في متاهات أي منها يجب أن تختار. ووقع الخيار على barrier ومعناه الشائع أقرب إلى fence وهو الحد الذي قد يفصل بين حديقتين أو منزلين.
لم يكن في إمكانهم استخدام مفرد wall لأن المفردة تذكر بالفصل، وأي ذكر للفصل لا بد أن يقع ضمن أو قرب سياق الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهذا ما لا تحبذه إسرائيل.
وكان هناك ما يطلق عليه "أسوار السلام في بلفاست" عاصمة أيرلندا الشمالية. هذه كانت سلسلة كبيرة ومتناثرة من الأسوار تفصل بين الأحياء التي يقطنها أتباع مذهبين مسيحيين في المدينة ـ الكاثوليك والبروتستانت.
وكانت أسوار بلفاست من الكثرة وتغطي مساحات شاسعة إلى درجة أنها صارت واحدة من أشهر خمسة أسوار في العالم رغم حداثتها حيث شرع في تشييدها في العقد السابع من القرن الماضي.
ولحجمها الكبير وأطوالها، فإن مسألة هدمها التي بدأت في 2013 استغرقت حتى الآن أكثر من عشرة أعوام ولم تكتمل. ما هي هذه الأسوار والحيطان والأسيجة يا ترى؟ وأي دبلوماسية أو معارك تقف خلفها؟ كنا نتصور أن الأسوار شيء من الماضي لكنها عادت مرة أخرى وبقوة ونحن في العقد الثالث من القرن الـ21. والأسوار أشكال، منها ما هو عسكري ومنها ما هو فكري وأيديولوجي. إنها تؤطر مفاهيم وتؤدي وظائف مختلفة، خصوصا في عصرنا هذا.