الأوضاع المالية ومعضلة البنوك المركزية «2 من 2»
الواقع أن تقييمات المحللين تشير إلى مخاطر ركود كبيرة في كثير من الاقتصادات، غير أن المتوقع هو أن حالات الركود، إذا وقعت ستكون معتدلة. وأدى تنامي التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة وتباطؤ الاقتصاد على نحو سطحي فحسب، إلى الدفع في اتجاه تيسير كبير للأوضاع المالية في الشهور الأخيرة رغم استمرار رفع البنوك المركزية لأسعار الفائدة. وعكست الأسواق هذا المشهد الحميد نسبيا، فشهدت أسواق البورصة صعودا سعريا، وضاقت كثيرا فروق العائد على السندات مقارنة بالسندات القياسية.
وحول معضلة أمام البنوك المركزية، فإن هذه الأوضاع المالية الميسورة أثناء دورة تشديد السياسة النقدية من جانب البنوك المركزية تصنع معضلة أمام صناع السياسات. فمن ناحية، تصدرت الأسواق المالية إشارة إلى احتمال تراجع التضخم دون زيادات ملموسة في البطالة. ويمكن أن يعتنق صناع السياسات هذه الرؤية، والمصادقة فعليا على تيسير الأوضاع المالية. ويرى هذا الرأي كثير من المراقبين الذين يشعرون بالقلق من أن تبالغ البنوك المركزية في حماسها لتشديد السياسة النقدية، وتتسبب في هبوط اقتصادي مؤلم بلا داع.
وبدلا من ذلك، يمكن للبنوك المركزية رفض تفاؤل المستثمرين، مؤكدة المخاطر التي تهدد باستمرار الضغوط التضخمية فترة أطول من المتوقع. ويتطلب منهج إدارة المخاطر هذا فرض أسعار فائدة تقييدية فترة أطول، إلى أن تظهر أدلة ملموسة على انخفاض التضخم بشكل مستمر.
وبينما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة تسعير مسار السياسة والأصول الخطرة في الأسواق المالية، ما يمكن أن يتسبب في هبوط أسعار الأسهم، واتساع فروق العائد على السندات مقارنة بالسندات القياسية، فإن هناك ثلاثة أسباب تقوم عليها الحاجة إلى هذا المنهج من أجل ضمان استقرار الأسعار.
ويوضح التاريخ أن التضخم المرتفع غالبا ما يكون متشبثا بالارتفاع، وقد يواصل مساره الصاعد دون توقف، ما لم تتخذ إجراءات قوية وحاسمة على صعيد السياسة النقدية لتخفيضه.
رغم أن تضخم السلع قد تراجع، إلا أنه يبدو من غير المرجح حدوث الشيء نفسه مع الخدمات دون أن تهدأ سوق العمل بدرجة ملموسة. من الضروري أن تتجنب البنوك المركزية الخطأ في قراءة الانخفاضات الحادة في أسعار السلع، والقيام بتيسير السياسة قبل حدوث تراجع ملحوظ في تضخم الخدمات والأجور، اللذين يتعدلان ببطء أكبر.
وتشير التجربة إلى أن الفترات الممتدة من الارتفاع السعري السريع تجعل توقعات التضخم أكثر عرضة للانفلات عن المستوى المستهدف، حيث يزداد رسوخ هذه الحالة الذهنية الداعمة للتضخم في سلوك الأسر والشركات.
وحول دور صناع السياسات والذين يجب أن يثابروا على الدرب، فإنه ينبغي للبنوك المركزية أن تفصح عن الحاجة المرجحة إلى الحفاظ على أسعار فائدة أعلى، فترة أطول، إلى أن تظهر أدلة على عودة التضخم، بما في ذلك الأجور وأسعار الخدمات، إلى المستوى المستهدف بصورة مستدامة. ومن المرجح أن يواجه صناع السياسات ضغوطا لتيسير السياسة النقدية مع ارتفاع البطالة واستمرار هبوط التضخم. ويمكن أن تكون هذه التحديات بالغة الحدة في حالة اقتصادات الأسواق الصاعدة.
ولا شك أن هذه فترة غير عادية يتأثر فيها التضخم بعديد من العوامل الخاصة، ومن الممكن أن ينخفض التضخم بأسرع مما يتصوره صناع السياسات. غير أن التيسير السابق لأوانه يمكن أن يتسبب في عودة التضخم الحاد بمجرد تعافي النشاط، ما يترك الدول عرضة لمزيد من الصدمات التي يمكن أن تخرج التوقعات التضخمية عن نطاقها المستهدف. ومن ثم، فمن الضروري أن يظل صناع السياسات مثابرين على الدرب وأن يركزوا على إعادة التضخم إلى مستواه المستهدف دون إبطاء.