تقنيات تتسارع .. من يحمي الأطفال؟

في تطور ملحوظ قد يسجن رؤساء شركات التقنية في بريطانيا إذا فشلت منصاتهم في حماية الأطفال في وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وذلك بعد أن وافقت الحكومة على قانون لفرض عقوبات جنائية على رؤساء مواقع التواصل الاجتماعي الذين يفشلون في حماية من هم أقل من 18 عاما من الضرر الناتج عن الإنترنت. وأشعل هذا القانون نقاشا وجدلا حادا في الأوساط الأكاديمية والمهنية في بريطانيا وحول العالم، وذلك النقاش ليس من قبيل مسؤولية شركات التواصل في حماية الأطفال والأشخاص عموما الذين يستخدمون قنواتها، بل في طبيعة المسؤولية عن الجريمة، فهل شركات التواصل مسؤولة عن جريمة لم تفعلها، بل فعلها أشخاص آخرون، وقبل مناقشة المبررات التي استند إليها المؤدون لهذا القانون، فإن شركات وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت في قلق بشأن الإفصاح عن هوية المستخدمين، ذلك أن تحديد هوية المستخدم للاتصال ومن ثم حمايته إذا لزم الأمر يتطلب تحديدا دقيقا للهوية، وهذا يحتاج إلى مزيد من القيود الصارمة التي ستعيد وسائل التواصل الاجتماعي إلى المربعات الأولى من حيث إن توسعها وانتشارها كان أساسا يعتمد على رغبة المتصل في إخفاء الهوية، بل أصبحت مسألة التحقق من الهوية من مهام المتصل نفسه وعليه تقع هذه المسؤولية فلا يسمح لمن لا يعرف هويته بالتواصل معه، كما أن عدم تحديد الهوية منح شركات التواصل القدرة على مضاعفة الأعداد، وتحقيق عوائد ضخمة من الدعاية والإعلان، وأصبحت هناك شركات فرعية تعمل على تضخيم أعداد المتابعين وهو ما وضع الشك حول حقيقة وجود هؤلاء المتابعين فعلا، وجدير بالذكر هنا ما أعلنه الملياردير الأمريكي ومالك منصة "تويتر" إيلون ماسك، قبل مدة من أن "تويتر" تعمل على تطهير المنصة من الحسابات المزيفة، وما أسماها حسابات البريد العشوائي "الاحتيالية" في الوقت الحالي"، لكن ردة الفعل على خطة تويتر كانت متشنجة حتى من شركات عملاقة في التقنية، ذلك أن أعداد المتابعين على منصة تويتر قد بدأت بالفعل الانخفاض، ما جعل هذه الشركات تعيد النظر في بقاء تطبيق تويتر على منصاتها، وهو الأمر الذي جعل إيلون ماسك يعيد النظر في قراراته التي بدت مستعجلة نوعا ما، ما يؤكد أن مسألة تحديد الهوية أمر شديد الحساسية بالنسبة إلى شركات التواصل الاجتماعي والشركات المرتبطة بها التي تعتمد على إقناع عالم الأعمال عموما بأن أعداد المتابعين حقيقية، وبالتالي قيمة ما يدفع في الدعاية والإعلان وقيمة الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع، لكن القانون البريطاني الجديد يضع الجميع أمام إعصار حقيقي وليس مجرد قرار لشركة يمكنها التراجع عنه.
متطلبات القانون البريطاني الجديد تجعل من الصعب استخدام تقنيات البريد العشوائي التي أشار إليها إيلون ماسك في اعتراضاته على حقيقة أعداد المتابعين، فالقانون البريطاني يتطلب من الشركات استخدام تقنيات متطورة للحد من تزوير الهوية والأعمار عند التسجيل في شبكات التواصل أيا كان نوعها، ومن ذلك التحقق باستخدام تقنيات التعرف على الوجه وهي عبارة عن برامج لتحليل الوجوه وتحديد ملامح الوجه في الصورة وقياسها، وهي بذلك توفر وسائل أكثر دقة للتعرف على الأفراد بدلا عن مجرد استخدام رقم هاتف محمول أو عنوان بريد إلكتروني أو العنوان البريدي أو عنوان IP على سبيل المثال.
وأثبتت هذه التقنية فاعلية عالية في منع الاحتيال التقني حيث يمكن للمحتالين الوصول إلى الأرقام السرية أو انتزاعها من أصحابها بطرق احتيالية، لكن تقنية الوجه تحقق منعا شبه كامل من الوصول، إلا من خلال الشخصية الحقيقية للمستخدم، لكن كما أشرنا فإن هذه التقنية تمثل تحديا كبيرا للشركات من حيث إنه لا يمكن الوصول إلى الحسابات إلا من خلال أشخاص حقيقيين وليس مجرد برامج حاسوبية، ولهذا تقاوم شركات التقنية مثل هذا الإجراء لما له من تأثير كبير في إيراداتها، كما هو متوقع، خاصة أن أرباح هذه الشركات قد بدأت التراجع فعلا مع نهاية العام الماضي وتراجعت بذلك أسعار الأسهم بنسبة تجاوزت 6 في المائة.
هناك أمر جدير بالملاحظة في القانون البريطاني الجديد هو موضوع محل نقاش واسع على كل حال ويتعلق بمدى مسؤولية الشركات عن الجرائم الجنائية، فالجريمة الجنائية لا ترتكب إلا من شخص طبيعي، مثل الرشوة والاحتيال، والقتل وغيرها، فهي جرائم يقوم بها أشخاص في العادة، لكن ظهور جرائم مثل غسل الأموال مثلا، هي جرائم جنائية بلا شك، ولا يرتكبها إلا أشخاص طبيعيون، لكن هل من المتصور أن يتم تنفيذ هذا النوع من الجرائم دون هيكل نظامي لمؤسسة أو شركة، فمن المسلم به أن هناك أنواعا معينة من السلوك الإجرامي التي لا يمكن تنفيذها إلا داخل هيكل الشركة، بل ويتم تنفيذها لمصلحة الشركة، ومع ذلك فقد بقيت مسألة التوصيف القانوني والفلسفة الأساسية لتجريم الشركات محل تساؤل، حتى تم إدخال مفهوم "الفشل في منع" الجرائم. وقد تم فعلا إدخال الفشل في منع الجريمة في قانون مكافحة الرشوة في بريطانيا 2010، وفي منع الجرائم المتبعة في قانون المالية الجنائية لـ2017 المتعلقين بتسهيل التهرب الضريبي، والآن يعمل المشرع البريطاني على تجريم الفشل في منع الجريمة في ظل قانون شركات التواصل الاجتماعي، فهذا النوع من التجريم يستهدف إجبار الشركات على مكافحة الجريمة من داخلها من خلال تحسين الثقافة التنظيمية، وتطوير نماذج الحوكمة التي تهتم بالكشف المبكر والحماية من الجريمة، ذلك أن الإهمال المتعمد لبناء منظومة للحماية من الجريمة داخل الشركات أصبح جريمة وليس مجرد إخلال بقواعد الحوكمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي