Author

اقتصاد متقدم يتعثر ويتعقد

|

وصف كثير من الخبراء والمحللين الاقتصاديين بأن الاقتصاد البريطاني يعاني الركود المستمر وأن الأسباب عميقة لهذا الوضع الحرج لدولة مثل بريطانيا، ويرى هؤلاء الخبراء أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس التحدي الأهم الذي يواجه صانعي السياسة البريطانيين. والأهم من ذلك، هو بسيط في الوصف ويصعب حله.

هو الركود طويل الأجل في الإنتاجية والدخول الحقيقية. إذا لم تستطع الدولة حل هذا، فمن غير المرجح أن تحل كثيرا من الأمور المهمة. حتى أزمة تكلفة المعيشة الحالية سيئة للغاية بسبب الأداء الرهيب على المدى الطويل.
ووفقا لتقارير رسمية وفي أحدث تدقيق لمعايير المعيشة لها، أن الأعوام الـ15 بين 2004 و2019، ما قبل جائحة كوفيد وما قبل "بريكست"، كانت الأضعف في نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد منذ الأعوام بين 1919 و1934.
وقد أدى انخفاض النمو في الناتج المحلي الإجمالي للفرد، إلى انخفاض النمو في الدخل الحقيقي، المتاح للأسر، وارتفعت تلك الخاصة بغير المتقاعدين، بـ12 في المائة بين 2004 و2005 و2019 و20.

وإنه يمكن مقارنة ذلك بمتوسط زيادة 40 في المائة كل 15 عاما منذ 1961.
ومن خلال هذه الصورة القاتمة، فإن المشهد الاقتصادي العام في بريطانيا كان متوقعا حتى من بعض المسؤولين في حكومة ريشي سوناك، الذي كان صريحا الصيف الماضي عندما احتل منصب وزير الخزانة، حين قال، ينبغي للحكومة ألا تجمل الوضع، فهناك مشكلات اقتصادية كبيرة تواجهها بريطانيا.

ولا شك في أن اقتصاد المملكة المتحدة هو الأسوأ من حيث الأداء، مقارنة باقتصادات الدول المتقدمة، وذلك وفق صندوق النقد الدولي الذي توقع انكماشا لاقتصاد بريطانيا هذا العام عند 0.8 في المائة، في حين ستسجل الاقتصادات الغربية الأخرى معدلات نمو وإن كانت متفاوتة.

وفي حين سيصل النمو في بلد كفرنسا إلى 1.1 في المائة، فلن تشهد بريطانيا نموا ربما حتى في العام المقبل، نتيجة مجموعة من الضغوط، بعضها مرتبط بالموجة التضخمية، وبعضها الآخر ارتبط بالسياسات الاقتصادية، التي تم اتخاذها من قبل الحكومة السابقة، التي أدت إلى إزاحة رئيسة الوزراء ليز تراس من الحكم.
ومن أسوأ الضغوط تلك الآتية من تزايد أعداد الشركات والمؤسسات، التي تعلن إفلاسها في المملكة المتحدة، ما يضيف أعباء جديدة على كاهل الاقتصاد الوطني، والمشرعين الذي يقومون بإعداد الميزانية العامة الرئيسة الشهر المقبل.

وهذه الأخيرة تعد مؤشرا اقتصاديا سياسيا بالطبع، إذا ما أخذنا في الحسبان أن الانتخابات البريطانية العامة ستجري في أقل من عامين، أو قد تجري في العام الحالي، إذا لم تتمكن حكومة سوناك من مواصلة السيطرة على المشهد العام، خصوصا في ظل مشكلات داخلية تؤدي عادة إلى استقالات حتى إقالات، ما يؤدي إلى مزيد من الضعف الحكومي.
إلى جانب مشكلة إفلاس الشركات، هناك الضغوط المستمرة الآتية من الارتفاع الهائل للديون الحكومية، التي وصلت إلى حجم الناتج المحلي الإجمالي، في حين ترغب الحكومة في خفض الضرائب قبل الانتخابات المشار إليها، ولن تستطيع القيام بذلك بالطبع في ظل انكماش مؤكد، وفائدة عالية وتضخم فاق كل المستويات، مقارنة ببقية الدول الغربية الأخرى.

وبكل تأكيد تواجه كل الاقتصادات المشكلات الناجمة عن التضخم واضطرارها لرفع تكلفة الاقتراض، لكن الحالة البريطانية تبدو مختلفة بسبب المشكلة التي خلفتها حكومة تراس، ولن تحل قبل عام على الأقل، إلى جانب طبعا الانعكاسات التي لا تنتهي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست".

فقد كان المحافظ السابق لبنك إنجلترا المركزي مارك كارني صريحا جدا، عندما حمل هذا الانفصال مسؤولية تفاقم الوضع الاقتصادي الوطني في البلاد، فضلا عن المشكلات العالقة بسبب "بريكست" وعلى رأسها بطء حركة التجارة مع الأوروبيين، وأزمة إقليم أيرلندا الشمالية التي لا تبدو نهاية لها، بعد هذا الانفصال.
ومن هنا، يمكن النظر إلى المشكلات الاقتصادية البريطانية على أنها مركبة، مرتبطة بعناصر سلبية كثيرة.

ستتصدر مشكلة إفلاس الشركات الأشهر الأولى من هذا العام، لأن على هذه الشركات أن تسدد أموال الدعم التي تلقتها خلال جائحة كورونا، لكن هناك عددا آخر من المشكلات لا تقل أهمية، بما في ذلك الإضرابات التي أرهقت البلاد نتيجة معاندة الحكومة برفع الأجور إلى مستويات التضخم، وكذلك معدلات البطالة، التي تواصل الارتفاع، مع حالة غريبة ومستعصية، وهي نقص الكوادر والموظفين في كل القطاعات الخدمية.
ومن هنا نرى المشهد العام ليس براقا للاقتصاد البريطاني، والكل ينتظر ما سيأتي به جيرمي هانت، وزير الخزانة في الميزانية العامة الجديدة.

فالمحافظون يريدون خفضا للضرائب، لكن السوق لا تسمح بذلك في الوقت الراهن، إلى جانب كيفية العلاج الذي ستتضمنه لزيادة الأجور، عبر مستويات الإنفاق الحكومي. إنها أزمة معقدة لا تشبه أي أزمة أخرى في أي من الاقتصادات المتقدمة.

إنشرها