Author

ميانمار على شفا الانهيار الاقتصادي

|

ميانمار "بورما سابقا"، التي اتخذ مجلس الأمن الدولي عددا من القرار ضدها، كان آخرها قرارا في كانون الأول (ديسمبر) 1922 بأغلبية 12 صوتا، "امتنعت الهند والصين وروسيا عن التصويت بحجة أنها لا تفضل قرارات الإدانة وتفضل البيانات الرئاسية الأممية بديلا"، تعيش اليوم، مع قرب حلول الذكرى الثانية لانقلاب جيشها على الحكومة المدنية المنتخبة، وضعا مزريا على جميع الأصعدة، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي.
وإذا كانت دول أخرى عديدة تمر اليوم بأوضاع اقتصادية لا تحسد عليها، فإن ميانمار تبدو على طريق الانهيار التام.

فمنذ استيلاء العسكر على السلطة بصورة مفاجئة في شباط (فبراير) 2021 ازدادت مستويات العنف والاضطرابات وخروقات حقوق الإنسان، واستمر تدفق مواطنيها كلاجئين إلى بنجلادش المجاورة التي تستضيف منذ 2017 نحو 700 ألف ميانماري. أضف إلى ذلك أن تفشي جائحة كورونا زاد الطين بلة، نظرا إلى ضعف بنية البلاد الطبية من جهة، وعدم استجابة النظام العسكري لتداعياتها، وإهمال تقديم الدعم الصحي المجاني للمواطنين من جهة أخرى.
ويبدو أن ما تنبأ به المؤرخ الميانماري المقيم في الولايات المتحدة ثانت مين يو، وهو حفيد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة يوثانت، في مقال له نشرته مجلة "فورن أفيرز" الأمريكية الرصينة في 2021، من أن ميانمار دولة فاشلة ومقبلة على الانهيار، وأنها وصلت إلى قمة اللاعودة، يتحقق الآن في ظل انسداد آفاق المصالحة الوطنية من جراء انعدام الثقة بالعسكر، والعزلة الدولية للبلاد، وتجذر النزعة العرقية القومية، واتساع رقعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية من تلك التي يحاول النظام العسكري مواجهتها بأساليب خطيرة، مثل الاتجار بالعقاقير المخدرة، وتوسيع شبكة الاتجار بالأحياء البرية وأخشاب الغابات.
الجدير بالذكر في السياق نفسه، أن الطبيبة التشيلية مشيل باشليت المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان، كانت قد قالت أثناء تقديمها ملخصا لأوضاع ميانمار خلال اجتماع الدورة الـ49 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف العام الماضي، "إن ميانمار معرضة بشكل متزايد لخطر الانهيار كدولة على خلفية تدهور حالة الاقتصاد والتعليم والصحة وأنظمة الحماية الاجتماعية في البلاد".
وإذا ما تفحصنا أوضاع ميانمار على الصعيد الاقتصادي، من منطلق أن أي أمة تحيا وتزدهر إذا كان اقتصادها سليما ومتعافيا، والعكس بالعكس، ستواجهنا حقائق وأرقام مثيرة من تلك التي تعزز ما قيل عن وقوف هذه البلاد على حافة الانهيار.
فمثلا هناك نقص حاد في النقد المتداول، وانخفاضات سريعة ومتتالية لقيمة العملة المحلية "الكيات Kyat" مقابل العملات الأجنبية الرئيسة كالدولار الأمريكي، وارتفاعات حادة في أسعار الوقود والسلع والمواد الخام المستوردة، "ارتفع معدل التضخم على أساس سنوي من 5.7 في المائة في 2020 إلى 19.4 في المائة في العام الماضي".

يقابلها عجز البنى التحتية عن تقديم الخدمات للمواطنين، ولا سيما خدمة التيار الكهربائي التي تعاني الانقطاعات المستمرة من جراء الاشتباكات المسلحة بين الجيش والجماعات الناقمة عليه، وثبات الحد الأدنى للأجور عند ما يعادل 2.30 دولا في اليوم دون أدنى تحسن خلافا لما كانت الحكومة المدنية قد وعدت به.
والمعروف أن ميانمار تعتمد في دخلها القومي على الاستثمارات الخارجية الآتية، تحديدا من الصين وسنغافورة وهونج كونج، حيث كانت هذه الاستثمارات توجه في المقام الأول نحو قطاعات العقارات والطاقة والتصنيع، لكنها توقفت الآن أو تراجعت بسبب الأوضاع المضطربة وحالة اللايقين السياسي والفلتان الأمني، وإن ادعى المجلس العسكري الحاكم أن ميانمار "استقبلت أكثر من 1.4 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة في الأشهر السبعة الأولى من العام المالي 2022 / 2023".

وينطبق الشيء نفسه على تحويلات المهاجرين من الخارج، ولا سيما أولئك الذين هاجروا إلى العمل في تايلاند، حيث كانت هذه التحويلات تسهم بنصيب وافر في تخفيف الأعباء المعيشية عن الأسر، لكنها لم تعد اليوم كما الماضي، ما جعل معاناتها المعيشية في تفاقم، خصوصا في الأرياف حيث يعيش نحو 70 في المائة من سكان البلاد، معتمدين على الزراعة لكسب قوتهم.
ولا حاجة لنا للقول إن القطاع الزراعي تضرر كثيرا، ولم يعد مجالا مناسبا للعمل والدخل، بسبب الاشتباكات العسكرية والضربات الجوية ونيران المدفعية التي وضعت قيودا على حركة المزارعين ونقل محاصيلهم، بل التي استهدفت أيضا البنى الصحية والتعليمية المتواضعة أصلا، وهو ما تسبب في معاناة إضافية للسكان.
أحد مصادر الدخل القومي الأخرى هو إيرادات الغاز الطبيعي ومناجم التعدين، وهذان القطاعان تم استغلالهما بطريقة مكثفة وسيئة من قبل الشركات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية طوال هيمنة العسكر على مقاليد السلطة، خصوصا في فترات حاجة جنرالات الجيش إلى مزيد من الأموال لحاجاتهم الشخصية أو لشراء الأسلحة.
ولعل أحد أغرب تصرفات النظام هو أنه في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى كل دولار لتحسين الأوضاع الخدمية والمعيشية منعا لانهيار منظومة الدولة ككل، نراه ينفق بشراهة على استيراد مختلف أنواع الأسلحة من طائرات حربية ومروحيات ودبابات وعربات مصفحة من مصدرين رئيسين هما موسكو وبكين، توهما بأن تزويد الجيش بها للاستمرار في القمع هو الخيار الوحيد لإطالة عمر بقائه في الحكم.

وهذا ربما يفسر مواقف قادة المجلس العسكري الحاكم المؤيدة بالمطلق لمجمل السياسات الصينية والروسية عالميا وإقليميا.

إنشرها