سلبيات انسحاب واشنطن من أفغانستان
قبل شهور من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حينما كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب تتفاوض في الدوحة مع قادة حركة طالبان على إحلال السلام في هذه البلاد المنهكة من الحروب والاقتتال الداخلي والفقر والمجاعة والتطرف والتدخلات الخارجية، وإن من سلبيات واشنطن هو الجلوس مع طالبان وجها لوجه على طاولة المفاوضات لأن في ذلك إضفاء للشرعية لها، حيث انتهكت حق الإنسان الأفغاني وحقوقه الإنسانية بطريقة غير مسبوقة، بل فيه أيضا تراجع خطير عن كل ما تم إنجازه من تنمية وإصلاحات محدودة خلال الأعوام التي أعقبت طرد طالبان من السلطة بالقوة الأمريكية في 2001. وقتها كان الشعار السائد في الإعلامين الأمريكي والغربي هو أن طالبان اليوم ليست كطالبان الأمس، بمعنى أن الحركة قد تغيرت واستفادت من دروس هزيمتها، وبالتالي فهي لن تعود إلى سياساتها السابقة لو تسلمت السلطة مجددا.
ما حدث بعد ذلك هو انسحاب القوات الأمريكية والأجنبية بالشكل الفوضوي المعروف، الذي سمح لطالبان بأن تجرف كل ما في طريقها بسهولة نحو السلطة في آب (أغسطس) 2021، وسط مشاعر الخوف والذعر واليأس لدى بعض الأفغان الذين عملوا كل ما في وسعهم لمغادرة بلادهم مع الأجانب الراحلين ورموز حكومتهم الشرعية المنهارة، خوفا من مستقبل قاتم أو هلعا مما قد يصيبهم من أعمال انتقام على أيدي الحكام الجدد وميليشياتهم المتشددة.
ولفترة قصيرة بعد تسلمها السلطة تظاهرت طالبان أمام المجتمع الدولي بأنها فعلا قد تغيرت، وأنها لا تنشد سوى السلام والتنمية ومشاركة العالم توجهاته وقيمه الحضارية. وقتها تركزت الأعين والأسماع على أول مؤتمر صحافي للمتحدث الرسمي باسم الحركة الملا ذبيح الله مجاهد، الذي لم يتردد في القول علنا، إن طالبان تحترم حقوق النساء وتسمح لهن بالعمل والتعليم، وتعترف بالنظام الدولي وقوانينه وأعرافه، وتفسح المجال لوسائل الإعلام الأجنبية بالعمل والتحرك داخل البلاد بحرية. إلى ذلك قدم بلاده كبلد منفتح على الاستثمار الأجنبي وشريك راغب في التنمية الاقتصادية والتطوير والإصلاح.
ما ورد في ذلك المؤتمر الصحافي طمأن كثيرين من صناع القرار في الشرق والغرب لجهة نيات طالبان، بل إن قائد الجيش البريطاني الجنرال تيك كارتر خرج ليؤكد أن متشددي طالبان لم يعودوا كما كانوا في التسعينيات، وأنهم اليوم أقل قمعية وتشددا من الماضي. ومع مرور الأيام، واستمرار رفض المجتمع الدولي الاعتراف بحكومة طالبان وبقاء أموال البلاد مجمدة، تبخرت وعود ذبيح الله سريعا لتعود "حليمة إلى عادتها القديمة"، وآية ذلك إقدام السلطة الطالبانية في العام الماضي على منع ظهور النساء على شاشات التلفزة الرسمية، لتتوالى القرارات بعد ذلك بمنع النساء من دخول الحدائق والصالات الرياضية ومنعهن من السفر والعمل في المنظمات غير الحكومية الدولية وارتداء الملابس الملونة، بل الاعتداء على المخالفات بالضرب وصولا إلى القرار الأخير بحرمان الأفغانيات من حق التعليم الجامعي. وكانت الأمم المتحدة قد أعدت تقريرا عن الوضع الأفغاني في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي جاء فيه أن ما تفعله طالبان يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية. أما رئيس البعثة الأمريكية في كابل فقد صرح في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي قائلا، إن بلاده تدرس مجموعة من الإجراءات لمعاقبة طالبان وعزلها!
لكن هل معاقبة وعزل طالبان كفيل بتخليها عن نهجها القاتم وإنقاذ الأفغان المضطهدين؟ بل كيف تستطيع واشنطن أن تعاقب الحركة كحل لمعاناة الأفغان؟ في وقت تتحرك فيه بعض القوى المنافسة للولايات المتحدة كالصين وروسيا إلى بناء جسور التعاون مع طالبان للاستفادة من الموقع الاستراتيجي لأفغانستان المحشورة بين وسط وجنوب آسيا، فضلا عن محاولات مماثلة من قبل الهند للدخول على خط غريمتها الصينية من خلال إبداء استعدادها لاستئناف مشاريعها التنموية في أفغانستان.
صحيح أن دعوات عزل ومعاقبة طالبان تزايدت في الفترة الأخيرة على خلفية حماقاتها المتكررة، لكن الصحيح أيضا هو وجود دعوات مضادة تشدد على الإبقاء على قنوات اتصال معها من أجل إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الأفغاني المضطهد أو تمكينه من مغادرة البلاد لتوطينه في بلد آخر يحترم آدميته وحقوقه في التعليم والعمل والحياة الكريمة كبقية شعوب العالم، خصوصا مع تعثر الاقتصاد الأفغاني واحتمالات حدوث مجاعة جماعية.
والحقيقة الأولى التي يجب أن تقال هي أن واشنطن تدفع اليوم ثمن خروجها المتعجل من أفغانستان وتضحيتها بالحكومة السابقة التي مهما نعتت بالفساد والضعف والترهل، فإنها على الأقل لم تكن متوحشة أو قمعية أو تحكم بأدوات قديمة كما يزعم البعض. والحقيقة الثانية هي أن واشنطن اليوم في ورطة، لأنها إذا عزلت طالبان أو نفضت يدها تماما من الشأن الأفغاني فإن خصومها سيحلون مكانها، وإن فعلت العكس فليس هناك ما يضمن لها تراجع طالبان عن أيديولوجيتها المتزمتة. أما إذا قررت مثلا أن تدعم القوى المعارضة للطالبانيين بهدف إسقاطهم، فإن ذلك يعني غوصها في الوحل الأفغاني مجددا.