التأمين سلاح المواجهة الجديد

لم تكن ساحة التأمين العالمية محل مخاوف من خلافات دولية، مثلما هي الآن في هذه المرحلة بالذات. فالخلافات الجيوسياسية، إضافة إلى الحرب الأوكرانية الدائرة في أوروبا التي تعد الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، فضلا عن المعارك التجارية التي لا تزال حاضرة على ساحة العالم اليوم خاصة الصراعات الدائرة بين واشنطن وبكين أكبر اقتصادين في العالم، والحمائية المتصاعدة هنا وهناك، كلها عوامل وضعت في الواقع كل الميادين في دائرة الخلافات، بل المخاطر أيضا. وليس هناك مؤشرات عملية لتخفيف التوتر على الساحة الدولية، بينما يواجه العالم واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية منذ أزمة 2008، مع وصول الموجة التضخمية إلى أعلى مستوياتها، واضطرار البنوك المركزية حول العالم إلى مواجهتها برفع دوري للفائدة. أي أن المشهد العام لا ينقصه مواجهة جديدة على ساحة التأمين، الذي يمثل محورا رئيسا للحراك الاقتصادي العام.
وبرزت هذه الأزمة في الواقع، عندما قررت دول مجموعة السبع الصناعية، وضع سقف أعلى لأسعار النفط الروسي، بحجة أن ذلك سيقلل الموارد المالية لتمويل حرب موسكو في أوكرانيا، فضلا عن جعل السوق النفطية مقبولة من ناحية الأسعار في ظل اضطرابات الإمدادات خلال الفترة السابقة. الحد كما أعلن لا يتعدى 60 دولارا للبرميل. ورغم اعتراض المسؤولين الروس، إلا أن الأمر سار وفق ما خططت له مجموعة السبع، لأسباب عديدة، في مقدمتها، أن سوق التأمين تقبع تحت سيطرة الدول الغربية منذ أن ابتكر العالم هذه الخدمة المعززة للحراك التجاري الدولي. بالطبع المسألة من ناحية عملية تخص الغرب وروسيا فقط في الوقت الراهن على الأقل، لكنها أعطت إشارات خطيرة إلى مواجهة متوقعة لاحقا بين الصين ودول المجموعة، في ميدان خطير وحساس في آن معا.
الخلافات التجارية بين الغرب والصين، خصوصا واشنطن وبكين لا يبدو أنها ستهدأ قريبا، فضلا عن أن زمنها طال حقا، واستفحلت بصورة كبيرة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب. لكن الخلافات الجيوسياسية هي الأشد حساسية، مع عودة مشكلة جزيرة تايوان إلى الصدارة، حيث وصلت إلى حد التهديدات العسكرية ولو إعلاميا على الأقل في النصف الثاني من العام الماضي. وهذا ما أثار إمكانية أن يستخدم التأمين كأداة حقا مع الصين. فشركات النقل الصينية تعتمد في 90 في المائة من حراكها على مؤسسات تأمين وإعادة التأمين تعود لمجموعة السبع، وهي مضطرة للامتثال إلى قرار سقف سعر النفط، ولا يمكنها أن تتمرد بأي حال من الأحوال. والتمرد يعني ببساطة رفع الغطاء التأميني، وهذا أمر لا يمكن لأي جهة تحمله.
اللافت في الأمر، أن رغم أن الصين استفادت بصورة واسعة من تحديد سقف أسعار النفط الروسي، باعتبارها واحدة من الدول الأكثر اعتمادا على الإمدادات الروسية، إلا أنها عدت ذلك بمنزلة جرس إنذار لأي مواجهة محتملة مع الغرب عموما، خصوصا إذا ما تفاقمت الحالة التايوانية، خلافا للمشكلات التي لا تنتهي بشأن هونج كونج أيضا.
ساحة التأمين يمكن ببساطة أن تتحول إلى ميدان مواجهة بين الغرب والصين في المستقبل القريب، ولا سيما في ظل الإجراءات الغربية الأخيرة حيال النفط الروسي. والسؤال الأهم هنا يبقى محصورا في المدى الذي يمكن أن تصل إليه بكين في هذه المواجهة التي يملك الغرب معظم أدواتها التأمينية تقريبا؟
قد تواجه الصين بعض المتاعب في هذا المجال، إذا لم تكن جاهزة حقا لخوض معركة اقتصادية أخرى مع الدول الغربية، في حين أن المسألة التي بدأت مع روسيا، يمكن ببساطة أن تنتقل إلى الجانب الصيني في أي تطور سلبي في المستقبل القريب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي