هل عادت البنوك المركزية إلى الذهب؟
تختلف مسببات شراء الذهب من قبل البنوك المركزية عن شرائها من قبل عامة المستثمرين ممن ينظر إلى الذهب كوسيلة حافظة للثروة ومخزن للقيمة وملاذ آمن ضد التغيرات السياسية والتقلبات الاقتصادية. فالنظرة التقليدية للبنوك المركزية تعد الذهب جزءا رئيسا من احتياطياتها النقدية لدعم عملاتها المحلية وتقوية مراكزها المالية، إلا أن هناك أسبابا أخرى تؤثر في تلك الشهية وتتغير هذه الأسباب حسب المستجدات السياسية والاقتصادية حول العالم.
وبحسب استفتاء المجلس العالمي للذهب، وهو الجهة المعنية بقطاع الذهب ويضم نحو 34 عضوا من كبار الشركات العاملة في المجال، فإن أهم الأسباب التي ذكرت حول أسباب احتفاظ البنوك المركزية بالذهب هذا العام، يعود إلى الحقائق التاريخية والأدوار التي تمارسها البنوك المركزية في أعمالها، بينما العام الماضي كان السبب الرئيس رغبة البنوك المركزية في الاستفادة من الأداء العالي للذهب في أوقات الأزمات.
وهناك أسباب أخرى لاحتفاظ البنوك المركزية بالذهب، ذكرها المشاركون في الاستفتاء، تعود إلى كون الذهب مخزنا للقيمة ووسيلة تحوط ضد التضخم، وإلى سيولته العالية واستخدامه كضمان في مختلف العمليات المالية. إلا أن هناك سببين آخرين مهمين، الأول أن الاحتفاظ بالذهب لا يخضع للمخاطر الائتمانية المتعلقة بالطرف الآخر، كما يتم ذلك بالضرورة في حال الاحتفاظ بسندات مصدرة من طرف آخر، أو حتى الاحتفاظ بعملات دولة أخرى، لكون هذه الوسائل جميعها معرضة لمخاطر الطرف المقابل. أما الذهب فهو حر بنفسه، له أسواق يباع ويشترى فيها دون الحاجة إلى الوثوق بطرف آخر للتصرف به.
في استفتاء مجلس الذهب تبين أن التخوف من مخاطر الطرف الآخر الائتمانية تم تأييدها بقوة بـ43 في المائة من البنوك المركزية المشاركة في الاستفتاء، علما أن 12 من هذه البنوك تابعة لدول متقدمة، و34 منها تابعة لدول نامية. وعلى الرغم من ذلك كانت ضئيلة جدا نسبة إلى أولئك الذين يؤيدون مقولة إن السبب يعود إلى رغبة البنوك المركزية في التخلص من الدولار كعملة احتياطية، حيث تم تأييد ذلك بـ9 في المائة فقط. بالمقابل نجد أن أرقام مجلس الذهب تشير إلى شراء البنوك المركزية نحو 400 طن من الذهب في الربع الثالث 2022، بينما بحسب صندوق النقد الدولي مجموع مشتريات البنوك المركزية 120 طنا فقط، إلا أنه يتردد أن هناك كميات شراء تتم بطرق غير معلنة رسميا لكنها تتضح في سجلات البيع والشراء.
وما يجدر ذكره هنا أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال صاحبة أكبر احتياطي من الذهب في العالم، بفارق كبير عن بقية الدول، ولو لم يتدخل الرئيس نيكسون لإيقاف بيع الذهب بـ35 دولارا للأونصة في 1971 لربما تلاشت كميات كبيرة من الذهب الأمريكي. فقبل قرار الوقف في ذاك الوقت كانت هناك حملات هجوم على الدولار الأمريكي، حيث تعالت صيحات التخلص من الدولار واللجوء إلى الذهب كملاذ آمن ومضمون بدلا من الدولار الذي تشبعت منه الأسواق الأوروبية، إلى درجة أنه يقال إن الرئيس الفرنسي شارل ديجول كان يراهن على انكسار الدولار، وكانت فرنسا تستبدل ما لديها من دولارات بالذهب من الخزائن الأمريكية.
ولا يزال الذهب يشكل جزءا كبيرا من احتياطيات البنك المركزي الأمريكي، يصل إلى 67 في المائة من الاحتياطيات، والنسبة قريبة إلى ذلك في ألمانيا، بينما هي متدنية جدا في دول الخليج، حيث نجد الذهب في البنك المركزي السعودي يشكل فقط 3.8 في المائة. وبينما لا يزال الدولار الأمريكي يتمتع بكونه العملة المفضلة في احتياطيات البنوك المركزية من العملات الأجنبية، إلا أن استخدامه لهذا الغرض أخذ في الانخفاض منذ عدة أعوام، حيث كان الدولار يشكل نحو 65 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية في 2017، بحسب صندوق النقد الدولي، وهو الآن أقل من 60 في المائة من الاحتياطيات، مع نزول مستمر منذ ذلك الوقت. أما من حيث استخدام الدولار كوسيلة دفع فلا يزال الدولار يستخدم بـ88 في المائة من العمليات التجارية.
ما يتردد في الأوساط المالية هو أن هناك دلالات لانخفاض قوة الاعتماد على الدولار في الاحتياطيات الأجنبية، وفي الوقت نفسه كون ذلك يتزامن مع ارتفاع حيازة البنوك المركزية من الذهب فهو دليل على التهديدات التي تواجه الدولار، خاصة في الأعوام الأخيرة، بسبب تنامي نفوذ بعض الدول المعارضة للسيطرة الأمريكية على مفاصل الاقتصاد العالمي، وغيرها من الدول التي تبحث عن وسائل أخرى، لتعزيز احتياطيات بنوكها المركزية. آخرون يرون أن الثقة بالولايات المتحدة باتت مهزوزة ومن الصعب على دول كثيرة ترك مستقبلها رهينة للقرارات الأمريكية، مشيرين في ذلك إلى قيام الحكومات الغربية بتجميد نحو 300 مليار دولار من احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية هذا العام!