حقيقة العملة المشفرة «4»

لقد ازداد الاهتمام كثيرا في الأعوام الأخيرة بعملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة، حيث تقوم بنوك مركزية عديدة بتجربتها. وهناك ثلاث حجج يستشهد بها كثيرا بالنسبة إلى عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة.
أولا، من شأن عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة المحافظة على إمكانية الحصول على النقود العامة مباشرة في الاقتصاد الرقمي الذي اختفت منه النقدية. فقد يشعر أفراد المجتمع بأن من حقهم الحصول على النقود الرقمية التي تتمتع دائما بالاستقرار، وتخلو من مخاطر الائتمان والسيولة ـ مثلما يشعرون حاليا بالنسبة إلى النقدية. غير أن الفروق بين التزامات البنوك المركزية والبنوك التجارية ليست ذات أهمية عملية تذكر لمعظم الأفراد عموما. وما دام الناس يثقون بأن أموالهم بأمان وأن البنوك المركزية على استعداد لمساندة النظام أثناء الأزمات، فقد لا يكون الحصول على المال العام ضروريا.
ثانيا، ربما يستدعي الأمر طرحا عاما مباشرا من النقود الرقمية الجديدة لتكون بمنزلة قيد على أي قوة احتكارية تمارسها البنوك أو جهات توفير المحافظ الإلكترونية في مجال مدفوعات التجزئة. لكن هناك وسائل أخرى لزيادة التنافس وضمان تلبية نظم المدفوعات المعايير اللازمة وهي:
* فتح نظم مدفوعات التجزئة أمام مشاركين جدد، بما في ذلك المؤسسات غير المصرفية.
* وضع حد أقصى للرسوم التبادلية التي يدفعها التجار على المبيعات ببطاقات الائتمان والخصم المباشر.
* وضع حد أدنى من المعايير للسرعة وإمكانية النفاذ وقابلية التشغيل البيني، "لتمكين إنفاذ المدفوعات عبر شبكات المدفوعات المختلفة".
ومما لا شك فيه أنه ينبغي مقارنة استخدام القواعد التنظيمية باحتمالية أن تؤدي هذه القواعد إلى تثبيط عزيمة الداخلين الجدد إلى نظام المدفوعات.
ثالثا، من شأن عملة البنك المركزي الرقمية لمدفوعات التجزئة أن تتيح مزيدا من الخصوصية والسيطرة على المعلومات الشخصية والمعاملات، مقارنة بما يتيحه نظام المدفوعات الإلكترونية في الوقت الحالي. لكن في هذا المجال أيضا، نجد أن إدخال تحسينات على القواعد التنظيمية أو التشريعات التي توفر الحماية الخصوصية للمستخدمين، وتضمن الحوكمة الرشيدة للبيانات، هي بدائل محتملة لإصدار عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة. وترى السلطة النقدية في سنغافورة أن مبررات استخدام عملة البنك المركزي الرقمية لمدفوعات التجزئة في سنغافورة، ليست قهرية في الوقت الحالي، في ظل نظم المدفوعات التي تعمل بكفاءة والشمول المالي واسع النطاق. فنظم مدفوعات التجزئة الإلكترونية الحالية سريعة وكفؤة وتكلفتها لا تذكر، بينما يظل هناك جزء متبق من النقدية متداول ولا يحتمل اختفاؤه. ومع ذلك، تعمل السلطة النقدية في سنغافورة على إقامة بنية تحتية تكنولوجية تسمح بإصدار عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة في حالة تغير الأوضاع.
من التهور أن نبالغ في القطع بما ستؤول إليه هذه الابتكارات المختلفة. فلا بد أن تعمل البنوك المركزية والجهات التنظيمية على متابعة الاتجاهات العامة والمستجدات بصفة مستمرة، ومن ثم مواءمة سياساتها واستراتيجياتها.
لكن ليس من غير المنطقي أن نتخيل المستقبل وقد باتت المنظومة البيئية للأصول الرقمية إحدى السمات الدائمة للمشهد المالي، بحيث تتعايش مع النظام الحالي القائم على خدمات الوساطة. وبينما ستظل عملات الثقة التقليدية مهيمنة على المشهد، فمن المتوقع أن تقوم العملات المستقرة الخاصة المدعومة وعملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات الجملة، بدور حيوي في مجال المدفوعات والتسويات عبر الحدود. ومن المرجح كذلك أن تصبح عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة عنصرا ذا دور محدود في القاعدة النقدية ـ على غرار الدور الذي تقوم به النقدية في الوقت الحالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي