إدارة السوق باستباقية اقتصادية

منذ ظهور مجموعة "أوبك +" على ساحة السوق الدولية، وهناك حديث كثير بشأنها، وقدرتها على المضي قدما في إصلاح السوق النفطية، والأهداف الاقتصادية لهذا التحالف، لقد كانت مشكلة السوق النفطية قبل "أوبك +" واضحة جدا، فهناك عدم اتساق في جانب العرض ومنافسة ضارة وصلت في بعض الأحيان إلى حرب أسعار،

هذا الوضع التنافسي كان ينظر إليه من جانب المستهلكين على أنه صحي طالما هناك إمدادات مستمرة للأسواق، لكن تبين فيما بعد أن هذا التنافس غير المنضبط بقواعد وحوكمة رشيدة قد يضر الاقتصاد العالمي ككل ولن يكون المستهلكون في وضع جيد، فالتنافسية غير المنضبطة تسببت لاحقا في توقف الاستثمارات أواخر القرن الماضي،

ما تسبب في تراجع الإنتاج والإمدادات تزامنا مع نمو اقتصادي كبير من الجانبين الصيني والهندي وطلب فعال من باقي العالم، وهذا تسبب في ارتفاعات تاريخية للأسعار تجاوزت 100 دولار واستمرت كذلك لفترة قبل أن تعود الاستثمارات بقوة إلى الأسواق مع دخول النفط الصخري،

لكن هذه العودة للإنتاج لم تكن مدروسة أيضا وكانت بلا توجيه وتزامنت مع تسرب الأزمة المالية العالمية لكثير من الأنظمة المالية وتعطلت عجلة الإنتاج العالمي وتراجعت الأسعار بشكل كارثي من أعلى قمة 100 دولار إلى أقل من 35 دولارا وفي وقت قياسي جدا وهو ما تسبب في توقف الاستثمارات بل تعرض عديد من الشركات لخسائر أخرجتها من السوق لتعود الأزمة كما كانت،

لقد كانت منظمة أوبك هي الجهة الوحيدة في السوق التي لديها قدر من الانضباط والتوجيه لكن مع وجود منافسين كبار خارج المنظمة كروسيا فقد كان من الصعوبة بمكان إحراز تأثير كبير، لم تجد هذه العلاقات الاقتصادية المتشابكة في السوق النفطية من يعالجها بشكل جذري نظرا لحساسية السوق النفطية وتأثيرها في مالية عدد كبير من الدول،

لكن أدوار الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء على الساحة الدولية كان لها أثر تاريخي بالغ، فقد كانت هذه الأدوار تحمل الحل الاقتصادي وليس السياسي فقط، حلا يتم من خلاله توسيع المشاركة في "أوبك" لتشمل روسيا والمكسيك ودولا أخرى لم تكن منضمة من قبل، لقد كان الهدف المعلن هو تنظيم السوق النفطية وفق مبدأ لا ضرر ولا ضرار،

حيث إن توازن الاقتصاد العالمي هو الهدف النهائي، وليست مصالح الدول المنتجة فقط بل يتم الأخذ في الحسبان سلامة الإمدادات والأسعار عند مستويات لا تضر بالاقتصاد العالمي،

لقد تطلب هذا الأمر حوكمة صارمة فتم تشكيل لجنة مراقبة للإنتاج، تجتمع بشكل دوري ولها دعوة المجموعة في الوقت الذي تراه ضروريا، كان صمود هذا الحلف الاقتصادي الجديد يستند إلى المصداقية والشفافية كما كان يستند أساسا إلى نجاحه في إدارة السوق النفطية لمصلحة الاقتصاد العالمي.

مع دخول مجموعة "أوبك +" حيز التنفيذ بدأت الأسعار تتحسن بشكل سريع لتعود إلى مستويات مقبولة، قبل أن يأتي أول اختبار مصداقية المجموعة مع انتشار جائحة كورونا وما تسببت فيه من إغلاقات اقتصادية وتراجع كبير في النمو العالمي مع توقف سلاسل الإمداد العالمية تماما، لكن حلف "أوبك +" أثبت كفاءة غير عادية فقد تم الاتفاق على معالجة الخلل في الطلب من خلال تحديد مستويات الإنتاج والابتعاد عن إغراق الأسواق بشكل تصعب معالجته لاحقا، ولقد كانت ثمار هذه القرارات كبيرة وعظيمة،

فحافظت السوق النفطية على توازنها والأسعار عند مستويات مناسبة، وأثبتت "أوبك +" أنها تدار وفق منهج اقتصادي استباقي سليم يستمد قوته من بيانات اقتصادية وإحصائية سليمة، وليس مجرد تكهنات وتحليلات خارج السياق، ويمكن القول إن هذه المنهجية الجديدة لإدارة السوق النفطية قد ظهرت مع تولي الأمير عبدالعزيز بن سلمان حقيبة وزارة الطاقة في السعودية، لقد وضع منهجا جديدا في إدارة السوق يقوم على تقييم الأوضاع بموضوعية أكثر،

وبشكل أكثر وضوحا، وبما يعزز مصداقية "أوبك +"، هذا المنهج العلمي تحدث عنه وزير الطاقة في حديثة لوكالة الأنباء السعودية، وذلك في ضوء التقارير التي صدرت أخيرا، عن جهات إعلامية مستقلة، مؤكدة صحة ودقة التوقعات التي توصلت إليها مجموعة "أوبك +" في تحليلاتها مقارنة بعدد من الجهات الأخرى.
لقد اندلعت الحرب الروسية - الأوكرانية في وسط أزمة اقتصادية نتجت عن انتشار فيروس كورونا حيث ما زالت هناك دول تتبنى سياسة الإغلاقات الاقتصادية وسياسة صفر للحالات المرضية، وهو ما تسبب في تراجع النمو العالمي بشكل قد لا يتناسب مع مستويات الإنتاج الحالية، وهذا في ظل عودة عديد من الدول إلى مستويات إنتاج ما قبل أزمة كورونا،

كل ذلك كان يتطلب من "أوبك +" اتخاذ قرار بشأن مستويات الإنتاج، والدلائل الموضوعية والبيانات والمعلومات المدروسة بشكل علمي تقدم نتيجة واحدة وهي ضرورة تخفيض الإنتاج بشكل متدرج،

لكن في ظل الأزمة الروسية - الأوكرانية، تبنى بعض الجهات الإعلامية تقارير وبيانات تشير إلى أن القرار بخفض الإنتاج كان لأغراض سياسية ودعما لروسيا لكونها مشاركة في القرار، وهذا تضمن اتهامات بتسييس قرارات "أوبك +"، لقد كانت الضغوط كبيرة جدا على السعودية خصوصا لأنها تدير اللجنة الإشرافية لمراقبة الإنتاج،

وذلك من أجل اتخاذ قرارات بزيادة الإنتاج بدلا من تخفيضه، كانت هذه الضغوط سياسية بحتة، ولو تم الرضوخ لها لكان هذا بالفعل تسييسا للقرارات، لكن الرياض قاومت كل هذه الضغوط على أساس مبدأ واضح تحدث عنه وزير الطاقة كثيرا وهو ألا يتم إقحام الشؤون السياسية خارج تحليلاتنا وتوقعاتنا لأوضاع السوق، ونركز على أساسيات السوق فقط، وهذا يمكننا من تقييم الأوضاع بموضوعية أكثر، وبشكل أكثر وضوحا، وهذا بدوره يعزز مصداقيتنا.

ولقد، تبين، مرة أخرى، أن قرار "أوبك +" كان هو القرار الصحيح.
لقد أيقن الجميع اليوم مع الاستقرار الذي تشهده الأسواق والاقتصاد العالمي رغم كل الظروف الاقتصادية والسياسية، أن هناك معلومات غير دقيقة وتستمر في تسييس الإحصاءات والتوقعات بلا موضوعية، لهذا فإن المنهج العلمي الموضوعي لجميع البيانات الصحيحة يعطي صناع القرار رؤية واضحة تمكن من القيام بالمبادرة والإجراءات الاستباقية،

وهو المنهج الذي تبنته "أوبك +"، بدعم كامل من السعودية وذلك من أجل ترويض سوق معقدة تميل إلى المبالغة في ردة الفعل تجاه الأخبار، سلبيا وإيجابيا، كما وصفها بدقة وزير الطاقة.

وهذا النهج الاستباقي، والتماسك داخل المجموعة، يجعلها في موضع أفضل وأقدر على المساهمة القوية في تعزيز استقرار السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي