الدولار .. ما الفرص والبدائل؟

منذ الأزمة المالية العالمية 2008، سعت الولايات المتحدة إلى تخفيض سعر الفائدة بشكل واسع حتى وصلت إلى مستويات صفرية، لقد كانت أياما سعيدة بالنسبة لكثير من الحكومات حول العالم، التي رأت في ذلك فرصة للوصول إلى التمويل الدولي بأسعار فائدة متدنية، وتحقيق مزيد من الاستقرار في النظام المصرفي وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، مع مزيد من الاستقرار للعملة المحلية التي لا تستخدمها عادة من أجل سداد الديون، لكن من أجل تمويل المالية العامة.

تلك الأيام السعيدة ولت اليوم، مع ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي إلى نحو 5 في المائة، فالحصول على الدولار من أجل تحقيق التوازن المصرفي أو من أجل سداد المستحقات والديون الخارجية لم يعد سهلا كما كان، فالتكلفة باهظة، ولا بد من دفع فائدة من أجل الحفاظ على الزخم السابق، والمحافظة على الاستثمارات الأجنبية، فائدة يفوق سعرها سعر الفائدة الأمريكية بمراحل، ذلك أن المخاطر تتفاقم، فعلاوة المخاطر ستكون كبيرة أيضا، وهذه الارتفاعات القياسية في أسعار الفائدة تعني تضخما مستوردا مع تناقص متزايد في الوصول إلى الأسواق العالمية لجلب الغذاء وغيره مما يستورد بعملة أجنبية.
نشرت «الاقتصادية» تحليلا عن هذا الوضع الصعب الذي تشهده الاقتصادات الناشئة اليوم، واستقرأت فيه آراء عدد من المحللين الذين يرون أن ارتفاع قيمة الدولار أدى إلى انخفاض مؤشر العملات الناشئة 3.5 في المائة هذا العام، وذلك أدنى مستوى في 18 شهرا، وبعضهم يرى أن الخسائر أكبر من ذلك وتراوح بين 9 و15 في المائة على عملات، مثل الزلوتي البولندي والليرة التركية.
الجميع يدرك أن التضخم في الولايات المتحدة هو السبب الرئيس خلف كل قرارات رفع الفائدة الأمريكية، فالولايات المتحدة التي تتمتع باقتصاد قوي جدا، مع تصنيف ائتماني خال من المخاطر، لم تكن في حاجة إلى منافسة العالم حول الاستثمارات الأجنبية، أو جذب الدولارات والاستثمارات، فيكفي أن تعلن حزمة من الدين حتى يتسابق الجميع على شرائها، وهي أيضا تعاني أزمة مستمرة في العجز المتفاقم، مع مشكلات صريحة في البنى التحتية التي تتطلب مزيدا من الأموال للحكومة، فهي في ظل كل هذه الأوضاع كانت تفضل لو استمرت الفائدة عند أدنى حد، لكن التضخم المتسارع جعل قرار رفع الفائدة لا مفر منه.

وبدأت علامات على استجابة التضخم لهذه القرارات، حيث ارتفعت أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة قليلا في نوفمبر، وتراجعت أسعار البنزين والسيارات المستعملة، ما قاد إلى أقل زيادة سنوية في التضخم في نحو عام، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في حدود 0.1 في المائة مقارنة بشهر أكتوبر الماضي الذي ارتفع بنسبة 0.4 في المائة، لكن هل هو الوضع المناسب، بمعنى هل عندما تتم السيطرة على التضخم وتوقف الزيادة في الأسعار ستعود الفائدة إلى مستوياتها السابقة؟ لا أحد يريد مناقشة هذا السؤال الآن، ذلك أن يعود إلى مسائل تتعلق بالركود والتحفيز ومخاطر الكساد، وكم من الوقت قد يستغرق ذلك، ورغم أن الإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة الآن، وقد لا تهم واضع السياسة الأمريكية اليوم، لكنها قضية مصيرية بالنسبة لكثير من الحكومات في العالم التي تواجه ضغوطا هائلة على عملاتها في مقابل الدولار، كما يوضح التقرير المشار إليه.
فالدولار يتمتع اليوم بقوة لم يحظ بها منذ عقود، وفي حزيران (يونيو) الماضي، ارتفع مؤشر الدولار الذي يقيس العملة الأمريكية مقابل سلة من 16 عملة بنسبة 8.7 في المائة، ليسجل أفضل وضع له منذ 2010، وفقد الجنيه الاسترليني 20 في المائة من قيمته في مواجهة الدولار منذ بداية العام، وانخفض اليورو في بعض الأشهر إلى ما دون سعر التكافؤ مع الدولار، مسجلا أضعف مستوى له منذ 2002، وخسر الين الياباني نحو خمس قوته في مواجهة الدولار هذا العام.

وعلى مستوى الاقتصادات الناشئة خسر الجنيه المصري أكثر من 25 في المائة من قيمته، وتراجع الفورنت المجري 20 في المائة، وخسر الراند الجنوب إفريقي نحو 9.5 في المائة من قيمته أمام العملة الأمريكية، والسبب الرئيس في هذا التراجع الجماعي هو البيع المستمر للعملات من أجل الاستفادة من العوائد على الودائع الامريكية في ظل مستويات خالية من المخاطر، مستويات من الفائدة يصعب على شركات في أسواق الأسهم أن تقدمها حاليا.

وعندما نقول خالية من المخاطر، فإن ذلك يعني أن تكلفة الفرصة البديلة ستكون مرتفعة جدا لأي استثمار خارج الولايات المتحدة وبنوكها، ما يجعل هذه الاستثمارات قليلة الجدوى، لذلك اندفع المستثمرون إلى الانسحاب من الاقتصادات الناشئة لإعادة استثمار أموالهم بالدولار القوي.

هذه الحالة تجعل الاقتصادات الناشئة تجد صعوبة بالغة في المحافظة على الدولارات التي بحوزتها واللازمة لدفع قيمة الواردات من المشتقات النفطية وغيرها من السلع المعمرة والمنتجات الغذائية التي لم تحقق فيها هذه الدول اكتفاء ذاتيا كافيا، مما ينذر بنقص حاد في هذه السلع وحدوث فوضى اجتماعية هناك.

هذا ما جعل بعضهم، وفقا للاستقراء، يرون أن الوضع الراهن لقوة الدولار كحرب عملات ضد العالم بأكمله، حيث يرى أستاذ في الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن ارتفاع قيمة الدولار يهدد بتفاقم تباطؤ النمو وتضخيم مشكلة التضخم للبنوك المركزية في العالم، فدور الدولار كعملة مستخدمة في التجارة والتمويل العالميين يعني أن تقلباته لها تأثيرات واسعة النطاق، ليست هذه المشكلة الوحيدة التي تقابل الدول الناشئة، بل هناك مشكلة أكثر تعقيدا والتحدي الأخطر الذي يعتقد الخبراء نتيجة ارتفاع قيمة الدولار، هي الديون واجبة السداد، فلدى حكومات الأسواق الناشئة ديون بقيمة 83 مليار دولار تستحق السداد بحلول نهاية العام المقبل، وذلك وفقا لبيانات معهد التمويل الدولي، والوفاء بمدفوعات تلك الديون ربما سيأتي على حساب خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم، وهنا يلخص التقرير الحالة الراهنة في أن المشكلة التي تواجه الاقتصادات الناشئة ليست قيمة الدولار حاليا، وإنما مستقبلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي