السياحة التجديدية والقيمة المضافة

خلال الملتقى الذي أقامته وزارة المالية تزامنا مع صدور الميزانية العامة للدولة لعام 2023، أكد وزير المالية أن المملكة انتقلت من مرحلة التوازن المالي إلى الاستدامة المالية، وبين أن المواطن هو العنصر الرئيس، كما أوضح وزير الاقتصاد والتخطيط أن القطاع الخاص هو المحرك الأساس للاقتصاد، فكل الاستراتيجيات تتمحور حول دعم وتمكين القطاع الخاص، لأهميته في الحراك الاقتصادي، مشيرا إلى أن القطاع الخاص هو الشريك الاستراتيجي الأول وهو المحور الأهم في تنويع مصادر النمو، منوها بدعم وتمكين القطاع الخاص، مبينا أن من أدوار القطاع الخاص الأنشطة غير النفطية التي نمت في بداية العام حتى نهاية الربع الثالث بنسبة 5.9 في المائة، وهي من أسرع معدلات النمو فيها لأكثر من 11 عاما ماضية.
بهذه التصريحات تبدو الاستدامة المالية التي تهدف إليها وزارة المالية تقوم بشكل أساسي على استدامة الموارد التي تأتي من القطاع غير النفطي، ذلك أن التاريخ الاقتصادي قد أثبت أن أسعار النفط تتقلب بشكل حاد بين الفترات، ما يؤكد صعوبة تحقيق استدامة للموارد واستقرار طويل الأجل في ظل مثل هذه الأسواق المتقلبة، لذلك فإن نمو القطاع الخاص هو المعول عليه في المرحلة المقبلة بإذن الله.
وهنا تجدر الإشارة إلى دراسة أعدتها وحدة التقارير في صحيفة "الاقتصادية" تؤكد الدور المهم الذي يقوم به القطاع السياحي في النمو الاقتصادي، فقد نما بنسبة 74 في المائة تقريبا مع بلوغ حجم الإنفاق السياحي في السعودية خلال النصف الأول من العام الجاري نحو 71.2 مليار ريال "19 مليار دولار"، مقارنة بنحو 41 مليار ريال للفترة المماثلة من العام السابق، ويعد بذلك الأعلى في ثلاثة أعوام، ويشير التقرير إلى أن نمو الإنفاق السياحي في السعودية خلال النصف الأول يأتي بسبب زيادة الإنفاق المحلي، عبر توافر عديد من البرامج السياحية أبرزها "مواسم السعودية"، التي بدأت أنشطتها قبل ثلاثة أعوام، فقد بلغ الإنفاق المحلي خلال الأشهر الستة نحو 44.5 مليار ريال بنسبة نمو 21.3 في المائة على أساس سنوي، بينما بلغ الإنفاق السياحي الوافد "القادمون من الخارج" نحو 38 في المائة أو ما يعادل 26.7 مليار ريال.

هذا النمو القوي جدا يأتي بعد أن واجهت السياحة في المملكة وفي العالم أجمع شللا واسع النطاق، بسبب الإجراءات الاحترازية التي انتهجتها الدول لمواجهة انتشار فيروس كوفيد ـ 19، لكن تشير تقارير المجلس العالمي للسياحة والسفر WTTC، إلى أن النمو في القطاع السياحي العالمي قد استعاد كثيرا من بريقه بعد الجائحة، ومن المتوقع أن يصل السياح في العالم إلى 1.8 مليار بحلول 2030، بينما وصل عددهم إلى 1.5 مليار في 2019، وأن هذا النمو يمكن أن يكون مستداما وشاملا، وأن يسهم بشكل إيجابي في تنمية المجتمعات، والنظم الإيكولوجية الطبيعية، والتراث الثقافي الذي يعتمد عليه قطاع السياحة والسفر.

بهذه الأرقام والحقائق فإن قطاع السياحة والسفر في المملكة يمكن أن يكون أحد أهم روافد النمو الاقتصادي في المرحلة المقبلة، وأن يسهم بشكل واسع وكبير في تحقيق استدامة للموارد المالية للدولة، خاصة مع استمرار الجهود المبذولة في تطوير القطاع وسعي المملكة إلى تنويع مصادر الدخل المحلي.
في عام 2021، نشر المجلس العالمي للسياحة والسفر، بالتعاون مع المعهد الأوروبي للسياحة، تقريرا عن أهمية ودور الإشراف والحوكمة لدعم أصحاب المصلحة، والموازنة بين تلبية الاحتياجات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية/الثقافية للوجهة، ويؤكد التقرير أن أفضل سيناريوهات لتحقيق ذلك هو المشاركة الفاعلة بين القطاعين العام والخاص وكذلك المجتمع المحلي، وبناء على هذا يتم توظيف قطاع السفر والسياحة ليس هدفا، لكن وسيلة لإيجاد القيمة لجعل أماكن أفضل للزائرين والمقيمين والمجتمعات والقطاع الخاص، وتحقيق ما أصبح يعرف باسم "السياحة التجديدية" Regenerative Tourism، يأخذ فيها القطاع العام زمام المبادرة في إنشاء أنظمة الحوكمة اللازمة وعمليات التخطيط للسياحة الشاملة، ويعترف فيها القطاع الخاص بمسؤوليته بالامتثال والاستثمارات الناجحة، ويتبنى المجتمع دعم السياحة والحفاظ على البنية التحتية.

من جانب آخر فإن تقرير "الاقتصادية" عن القطاع السياحي قد أشار إلى أن تطوير القطاع كجزء من رؤية السعودية 2030 - عبر توفير خيارات سياحية متنوعة، ومن أبرز تلك المشاريع، مشروع القدية، وهو مشروع ترفيهي ملهم للشباب، وكذلك عدد من المشاريع الضخمة على سواحل السعودية، وهي نيوم والبحر الأحمر وأمالا، وتطوير عديد من المواقع التاريخية، كالعلا ومدائن صالح، والدرعية التي تمثل جميعها رموزا وطنية وثقافية مهمة في المملكة - قد جاء بنتائج مشجعة حتى الآن، فقد تجاوزت التأشيرات السياحية 500 ألف تأشيرة قبل أزمة كورونا العالمية، وشهد الإنفاق السياحي الوافد "الخارجي" نموا كبيرا وملحوظا بزيادة بلغت 521 في المائة على أساس سنوي، وبلغ إنفاقهم خلال الفترة المماثلة نحو 4.3 مليار ريال، فيما بلغ عدد السياح خلال الأشهر الستة من العام الجاري نحو 25 مليون سائح بنمو 40 في المائة تقريبا، فيما مثل السياح الوافدون للسعودية 14 في المائة.
على هذا النحو فإن القطاع السياحي يعد أفضل فرصة متاحة لنا من أجل تحقيق نمو مستدام في المالية العامة، مع تحقيق مستهدفات الرؤية في تنمية المجتمع وتحقيق ميزانيات هدفها المواطن، وفي الوقت نفسه تحقيق مستهدفات الرؤية بشأن الاستفادة من المكانة والمكان اللذين تتمتع بهما المملكة، وهذا يتطلب مزيدا من الجهود في تحقيق مفاهيم السياحة التجديدية، ومتطلبات الحوكمة والإشراف، التي توائم بين أنشطة الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي