حضارتان .. قوة التأثير والتغيير
استطاعت المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، إحداث نقلة موضوعية كبيرة في موقع المملكة على الساحة الدولية، فقد بدأ الملك سلمان عهده الزاهر بزيارة دول عديدة، من بينها روسيا والصين، من أجل بناء منهج أكثر توازنا في العلاقات الدولية يقوم على تقديم مصالح المملكة، وتعزيز موقعها القيادي على الساحة الدولية.
لقد كانت المملكة، قبل حكم الملك سلمان، ترتكز على قوتها النسبية في حفظ توازن السوق النفطية، وفي أحيان كثيرة كانت المحافظة على هذا المركز التفاوضي تكلف السعودية كثيرا من الناحية الاقتصادية، وقد تقع تحت ضغط العجز في الموازنة العامة لأكثر من عقد كامل، لكن مع بروز دور الأمير محمد بن سلمان كولي للعهد وعراب لرؤية السعودية 2030 تم تغيير الكثير خلال الأعوام الأخيرة.
لقد أعادت المملكة تمركزها على الساحة الدولية بالاستناد إلى معطيات كثيرة، لعل أهمها على الإطلاق هي رؤية 2030 نفسها، التي ارتكزت على الاستفادة الكاملة من الموقع الاستراتيجي للمملكة بين القارات الثلاث، وأن تكون بين أهم وأكبر المراكز اللوجستية في العالم بناء على هذا الموقع، مع التوسع في الإنفاق الرأسمالي لبناء قوة اقتصادية متعددة الموارد معتمدة على مبادرات عدة.
وهذه المبادرات الاستراتيجية من الأهمية بمكان تجعل المفاوضات على توازن السوق النفطية، كما حدث سابقا، ممكنة وبعيدة عن الضغط على الدول المنتجة، خاصة مع ما نجحت فيه السعودية بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في بناء تحالفات جديدة في السوق انتهت بإنتاج "أوبك+"، لتصبح قرارات توازن السوق تمتد إلى أكثر من طرف في المعادلة، كما تمت إعادة هيكلة صندوق الاستثمارات العامة ليلعب دورا محوريا في القرار الاقتصادي وتخصيص الموارد، مع إعادة تموضع شركتي أرامكو وسابك والعلاقات الاقتصادية بينهما بشكل يخدم وحدة القرار ويعزز من كفاءة استخدام الموارد، هذا إضافة إلى التوجه نحو مناطق اقتصادية جديدة وجاذبة، مثل نيوم، وما تحمله من مستقبل مشرق، خاصة في إنتاج الطاقة النظيفة.
وتحقق الكثير مما يمكن الحديث عنه، لكن الأهم هو تحقيق أعلى نمو في العالم خلال العام المنصرم مع تحقيق فائض كبير مقارنة بركود في معظم أنحاء العالم وتضخم أثرت تداعياته السلبية في كثير من الاقتصادات.
هذه المعطيات كافة تجعل السعودية محل اهتمام دولي واسع لفتح مزيد من الشراكات الاقتصادية وتوحيد الرؤى، ولهذا تستمر الوفود الرسمية في زياراتها إلى الرياض من أجل بحث المواقف لبناء تحالفات قوية ومتينة، والاستفادة من القوة السعودية الصاعدة على مستوى القوى المؤثرة في العالم.
في الجانب الآخر، برزت الصين كقوة اقتصادية عالمية، وتعمل بكين على الاستفادة واغتنام فرص "التغييرات العظيمة التي يشهدها القرن الحالي، وباستخدام قوة ناعمة تتمثل في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبناء منظومة دولية ذات مصير مشترك.
وفي هذا المشروع الكبير تعمل على زحزحة الهيمنة الغربية من خلال استراتيجيات متعددة لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وذلك استنادا إلى نجاح النظام الصيني في تحقيق معجزة اقتصادية نقلت المجتمعات الفقيرة لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مع ما تفرزه الثورة الصناعية الرابعة وأنظمة الذكاء الاصطناعي من قدرات استثنائية للإنسانية إذا تم توظيفها في هذا الاتجاه.
وبذلك تبدو الرؤى السعودية والصينية متطابقة تماما من أجل بناء اقتصاد عالمي متعدد وتنافسي، حيث تقدم كل دولة ما لديها من ممكنات من أجل مصالح البشرية، مع احتفاظ كل دولة بثقافتها التي تعتز بها، ولذا فإن توقيع الملك سلمان، والرئيس الصيني، اتفاقية استراتيجية شاملة تمثل قمة في ذاتها، قمة بين حضارتين كبيرتين وثقلين اقتصاديين عالميين، وقوتين سياسيتين.
ولأن المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد، تمثل الثقل الإسلامي والعربي، وهي واسطة العقد في هذا وذاك، فقد كانت الرياض ولم تزل مركزا عالميا لعقد المؤتمرات الكبرى بين الحضارات الإنسانية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية، وشهدت أمس انعقاد ثلاث قمم: الأولى قمة "سعودية - صينية" ، والثانية "قمة الرياض الخليجية - الصينية للتعاون والتنمية"، والثالثة "قمة الرياض العربية - الصينية للتعاون والتنمية"، ولا شك في أن أنظار الشعوب العربية وشعوب العالم تتطلع إلى قطف ثمار هذه القمم الكبرى، ذلك أنها تدرك أن الرياض كمركز ثقل كبير وتأثير قوي هي أيضا دار للسلام والسلم العالمي، والنهضة المشروعة للأمم.
ومن المعلوم أن حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية ازداد بأكثر من 620 ضعفا، وازدادت الواردات النفطية الصينية من الدول العربية بنحو 30 ضعفا، وذلك منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، فالمنطقة التي تسعى لأن تكون أوروبا الجديدة، وفقا لما عبر عنه وأكده الأمير محمد بن سلمان، فإنها تجد في الصين شريكا موثوقا، وفي الرؤى المشتركة معها عناصر قابلة للتكامل.
هكذا جاءت نتائج الزيارة التاريخية للرئيس الصيني لترسم طريقا مزدوجا بين المصالح السعودية - الصينية، ولتمهيد الفرص الاستثمارية المشتركة في تطوير مشاريع تقنيات تحويل البترول إلى بتروكيماويات، وهي المشاريع التي أعلنتها أرامكو قبل عدة أيام، كما تم الاتفاق على مشاريع في الكهرباء، والطاقة الكهروضوئية وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة والاستخدامات المبتكرة للموارد الهيدروكربونية، مع توطين مكونات قطاع الطاقة وسلاسل الإمداد المرتبطة بها، وتعزيز رؤية المملكة كمنطقة خدمات لوجستية عالمية.
وتوافقا مع مبادرات "الحزام والطريق"، تم الترحيب بانضمام المؤسسات السعودية المعنية إلى شراكة الطاقة والاستثمارات المختلفة في إطار "الحزام والطريق"، وتعظيم موقع المملكة كمركز إقليمي للشركات الصينية لإنتاج وتصدير منتجات قطاع الطاقة، بما يسهم في تطوير المحتوى المحلي السعودي، ويحقق للصين الاكتفاء الذاتي في قطاع البتروكيماويات من خلال استثماراتها ذات الصلة في المملكة، وهذا ما يعزز مجالات "خطة المواءمة" بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة الحزام والطريق، التي تم التوقيع عليها بجانب التوقيع على 12 اتفاقية ومذكرة تفاهم حكومية وتسع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين القطاعين الحكومي والخاص، وتوقيع 25 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الشركات في البلدين.
قمة عند هذا المستوى وبهذه النتائج، جنبا إلى جنب مع القمتين اللتين شملتا دول الخليج والدول العربية، فإن الشمس السعودية - الصينية ستشرق للعالم بمزيد من الاستقرار في الأسواق، وبالتالي رفع عوائد التبادلات التجارية، ونمو الاقتصادات، وتحقيق كثير من المكتسبات على الأصعدة كافة.