تقارير و تحليلات

مكافحة الفقر تعود إلى المربع الأول .. مرحلة اقتصادية هشة وأزمات تأبى أن تندثر

مكافحة الفقر تعود إلى المربع الأول .. مرحلة اقتصادية هشة وأزمات تأبى أن تندثر

يصعب أن تجد في عالم اليوم من ينكر أن المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي يمران بمرحلة شديدة الهشاشة، أين كانت المشكلة التي سنتحدث عنها، ستجد ملامحها قوية وربما طاغية في عالم اليوم، الأمن الغذائي.. حدث ولا حرج، الصراع الجيوسياسي.. واضح كالشمس، الأوبئة الفتاكة.. لم تخرج البشرية بعد من صدمة جائحة كورونا، تغيير المناخ.. لم يعد لناكري تلك المشكلة من وجود مؤثر، الديون.. الجميع في انتظار انفجار الفقاعة، التضخم.. حديث الساعة وصرخة مشتركة من الجميع، مشكلات عالمنا المعاصر تأبى أن تندثر وتختفي.
مع هذا لا يمكن أن ننكر أيضا أن العقود الثلاثة الماضية أفلحت في إحداث تغير إيجابي في حياة عديد من البشر، إلى الحد الذي أشارت فيه بعض التقديرات لمؤسسات بحثية دولية إلى أن معدل الفقر في العالم انخفض بنحو ثلاثة أرباع، بينما أعلنت الأمم المتحدة في تقرير رسمي بأن معدلات الفقر العالمي انخفضت قبل جائحة كورونا بأكثر من النصف.
بدت تلك الأخبار جيدة وسعيدة للعديدين، فالفقر ولا شك بوابة إلى عالم الألم والحرمان، وتقليص عدد الفقراء في العالم مع نشر التعليم ومحو الأمية مداخل لخلاص البشرية من مشكلاتها كافة أو على الأقل جزء كبير منها.
وجاءت الجائحة لتقلب الأمور وتعيد المجتمع الدولي إلى المربع الأول أو قريبا منه، فبسبب وباء كورونا زاد عدد فقراء العالم بما يصل إلى نصف مليار نسمة أو 8 في المائة من سكان كوكب الأرض وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، وحاليا رفع البنك الدولي تلك النسبة إلى 8.5 في المائة بما يعادل 685 مليون نسمة من سكان الكوكب، مع التأكيد على أن الفقر يتراجع الآن بمعدل بطئ للغاية يبلغ 2 في المائة فقط سنويا، وآخر التقديرات ترجح أن 860 مليون شخص قد يعيشون في فقر مدقع "الأشخاص الذين ينفقون أقل من 1.9 دولار يوميا"، بحلول نهاية هذا العام، بينما سيصل عدد الأشخاص الذين يعانون نقص التغذية 830 مليون شخص تقريبا.
قضية الفقر ليست قضية معاناة وحسب، فوفقا لتقرير منظمة أوكسفام فإن "عدم المساواة يقتل"، فأغني عشرة أشخاص في العالم، حققوا 810 مليارات دولار بين آذار (مارس) 2020 وتشرين الثاني (نوفمبر) 2021، والأكثر خطورة أن أغنى 1 في المائة العالم مسؤولون عن المستوى نفسه من الانبعاث الكربوني لأفقر 3.1 مليار شخص في العالم.
وهنا يرى الدكتور إل.دي فلانج، أن التجربة الدولية في مكافحة الفقر مرت بمراحل هبوط وصعود، لكنها في الوقت الراهن نتائجها مخيبة للآمال.
وقال لـ"الاقتصادية" إنه "في الـ30 عاما الماضية حققت البشرية خصوصا العملاقين الآسيويين الصين والهند نتائج طيبة في مجال مكافحة الفقر، إذ أعلنت الصين قبل عامين أنها قضت على الفقر المدقع، أما الهند فقصة نجاح أكثر حداثة، فمعدلات النمو الاقتصادي المرتفعة في الهند أدت إلى انخفاض معدلات الفقر إلى 77 مليونا في 2019، ومع جائحة كورونا ارتفعت معدلات الفقر مجددا، لكن يتوقع أن يستأنف معدل الهبوط لاحقا، وبحلول 2030 ستلحق الهند بالصين وستقضي على الفقر المدقع الذي يقدر عدد من أصيب به نحو خمسة ملايين شخص".
بعيدا عن الصين والهند، فإن الوضع العالمي مخيب للآمال، زاد عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع للمرة الأولى منذ جيل، والآن مع ارتفاع معدلات التضخم وتأثيرات الحرب الأوكرانية، فإن عرقلة جهود مكافحة الفقر تتنامى، ويمكن أن تؤدي الأزمات المجتمعية إلى إلقاء مزيد من البشر إلى مستويات الفقر المدقع بسبب فيروس كورونا، وتزايد عدم المساواة العالمية، وصدمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بسبب حرب أوكرانيا، فجميع الدول تقريبا أدخلت تدابير الحماية الاجتماعية استجابة للأزمة، لكن عديدا منها قصير الأجل بطبيعته، ولم تستفد منه اعداد كبيرة من الأشخاص الفقراء، ومن ثم فإن العالم لا يسير في المسار الصحيح لمكافحة الفقر، وتحتاج الدول الفقيرة الآن إلى مستويات غير مسبوقة من النمو لمصلحة الفقراء.
من جانبه، قال الدكتور توم فيليب، أستاذ التنمية الدولية في جامعة كامبريدج، إن مشهد الفقر العالمي بات مختلفا اليوم عما كان عليه في الماضي جغرافيا على الأقل.
وأضاف، أنه قبل عقدين تركز الفقر في الدول الآسيوية ذات الدخل المنخفض، واليوم وفي المستقبل سيتركز أكثر في إفريقيا جنوب الصحراء لهشاشة تلك الدول والصراعات المحتدمة هناك، وبحلول نهاية العقد فمن بين الدول العشر الأكثر من حيث عدد الفقراء سيكون هناك تسع دول إفريقية، وستصبح دول مثل نيجيريا، الكونغو الديمقراطية، الصومال وموزمبيق الوجهات الأكثر فقرا.
وأوضح أنه في النهاية لن يكون الفقر مرتبطا فقط بالدول، لكن بأماكن محددة داخل الدول.
وتواجه الميزانيات الحكومية ضغوطا شديدة في الفترة الراهنة، والوضع ربما يزداد صعوبة مع اقتراب موجة حكومية من التخلف عن سداد الديون، ومن ثم ستضطر الحكومات إلى خفض الإنفاق العام لدفع ما عليها من ديون واستيراد الغذاء والوقود.
كما أنه من المقرر أن تسدد أفقر دول العالم 43 مليار دولار على شكل مدفوعات دين هذا العام، وكان من الممكن أن تغطي تكاليف وارداتها الغذائية في وقت تواصل أسعار المواد الغذائية في الارتفاع.
بدورها، لا تنفي الدكتورة هولي دين الاستشارية في الأمم المتحدة، هذا الوضع المعقد، لكنها ترى أن جوهر فشل الجهود الدولية لمكافحة الفقر يكمن في العجز الدولي عن حل قضية عدم المساواة داخل الدولة الواحدة وبين الدول بعضها بعضا.
وقالت لـ"الاقتصادية" إن "ثروات المليارديرات زادت منذ جائحة كورونا أكثر مما كانت عليه في الأعوام الـ14 الماضية مجتمعة، وفشلت أغلب الحكومات في زيادة الضرائب على الفئة الأكثر ثراء في المجتمع، ويرجع ذلك إلى التفكير النيوليبرالي الذي يسيطر على المدرسة الاقتصادية العالمية، التي ترى أن زيادة ثراء تلك الفئات يضمن وجود قوة دفع اقتصادي في المجتمع، تضمن زيادة ثراء الجميع وتحقيق المساواة على الأمد الطويل".
وتستدرك قائلة، ما يتم تجاهله أن زيادة الضريبة السنوية على أصحاب الملايين 2 في المائة والمليارديرات 5 في المائة كفيلة بتحصيل 2.52 تريليون دولار سنويا، وهذا يضمن إنقاذ 2.3 مليار شخص من براثن الفقر، وصنع لقاحات كافية للعالم من وباء كورونا، وتقديم رعاية صحية شاملة وحماية اجتماعية لكل من يعيش في الدول منخفضة الدخل والدول ذات الدخل المتوسط والأدنى".
وفي هذا السياق، يقترح بعض الخبراء فرض ضريبة ثروة دائمة لمرة واحدة لتمويل تعاف عادل ومستدام من وباء كورونا، وفرض ضريبة على الأرباح الزائدة والمفاجئة للشركات الكبرى في جميع الصناعات، وقد قدرت عائدات تلك الضريبة في 2020 إذا ما فرضت على 32 شركة متعددة الجنسيات فائقة الربحية، بنحو 104 مليارات دولار.
لكن تلك الخطوات على المستوى الداخلي يجب أن يرافقها أيضا مجموعة من القرارات ذات الطابع الدولي، إذ يمكن لدول مجموعة السبع إلغاء جميع مدفوعات الديون على الدول النامية التي تحتاج إلى مساعدات عاجلة، وستسهم خطوة مثل تلك في تحرير أكثر من 30 مليار دولار لـ33 دولة تواجه بالفعل خطر العجز عن سداد ما عليها من ديون، على أن يتواكب ذلك مع تأسيس صندوق عالمي للحماية الاجتماعية لمساعدة الدول الأكثر فقرا في العالم، ما يساعد على مكافحة الفقر خاصة حالات الفقر المدقع.
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي توماس اليوت، أن التفاوتات بين الدول قد تراجعت منذ نهاية الحرب الباردة، لكن عدم المساواة زاد داخل معظم الدول، وأصبح أكثر وضوحا نتيجة جائحة كورونا في العامين الماضيين، لكنه يشير إلى أن فجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء كانت أكبر حتى من فجوة الدخل بين الطرفين، خاصة مع ازدهار الأصول العام الماضي وهذا ما يفسر الزيادة الضخمة في ثروات الأثرياء خلال فترة كورونا.
وأوضح لـ"الاقتصادية"، أن "أغنى 10 في المائة من سكان العالم يحصلون حاليا على 25 في المائة من الدخل العالمي مقارنة بحصة 8 في المائة للنصف الأفقر، بمعنى أن الفرد الذي ينتمي إلى أغني 10 في المائة في العالم يحصل على ما يزيد على 92 ألف جنيه استرليني سنويا، وفي المقابل الفرد الذي ينتمي إلى النصف الأكثر فقرا من توزيع الدخل العالمي يكسب أقل من أربعة آلاف جنيه استرليني".
لكنه يرى أن الحديث عن الفجوة بين الأثرياء والفقراء وتنامي اعداد الواقعين في براثن الفقر المدقع تجعل كثيرا من الباحثين يتجاهلون أو لا يركزون كثيرا على بقاء التفاوت بين الجنسين مرتفعا.
وأوضح أنه على الرغم من تضيق الفجوة بين الرجال والنساء في العقود الثلاثة الأخيرة، بلغ نصيب المرأة من الدخل 30 في المائة في 1990 وارتفع إلى 35 في المائة قبل عامين، ما يكشف من وجهة نظره عن أن التقدم في معالجة المساواة بين الجنسين لا يزال بطيئا للغاية على المستوى العالمي.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات