تكتلهم يهتز بأزمات متراكمة

لم تشهد الوحدة ضمن الاتحاد الأوروبي تهديدا، منذ أزمة الديون الأوروبية التي نالت من عدة دول "البرتغال وإسبانيا واليونان وأيرلندا"، مثل هذا التهديد الذي يستهدفها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما أفرزته هذه الحرب من تداعيات خطيرة، بلغت درجة التلويح باستخدام السلاح النووي.
والواضح أن القاسم المشترك لهذا الاتحاد ما زال حاضرا، لكن هناك اهتزازات قوية يتعرض لها، من ناحية قيام دول محورية، ورفض لبعض السياسات والخطط التي قد تؤثر سلبا في حركتها الاقتصادية والتجارية "ولا سيما ألمانيا"، بسلوك مسارات منفردة خصوصا فيما يتعلق بأزمة الطاقة التي تعانيها أوروبا وبرلين بالذات، التي ذاقت الأمرين، ما دفعها لأن تطلب من باريس تزويدها بكميات إضافية من الغاز لمواجهة عجزها، نتيجة التداعيات المباشرة للحرب الروسية ـ الأوكرانية، وقيام موسكو بوقف صادرات الطاقة إلى القارة الأوروبية، التي تعتمد "قبل الحرب" على أكثر من 40 في المائة من إمداداتها على تلك الآتية من روسيا. حيث وصلت ألمانيا إلى موقف حرج لا تحسد عليه، وباعتبارها في الوقت نفسه أقوى اقتصاد على المستوى الأوروبي.
اللافت أن فرنسا التي تعد واحدة من أكثر الدول ضمن الاتحاد الأوروبي تفهما لوضع ألمانيا الحالي في نقص حصص الطاقة، بدأت توجه الانتقادات العلنية المباشرة إلى برلين، الساعية إلى توفير الأمان على صعيد الطاقة للبلاد كلها، قبل أن يحل فصل الشتاء حيث يرتفع الطلب على كل أنواع الطاقة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعتقد أن الحكومة الألمانية تتجه إلى مسار منفرد، ولا سيما بعد تخصيص 200 مليار يورو لدعم الطاقة، أو لتحديد سقف أسعارها. ماكرون حذر من عزل نفسها، في إشارة واضحة إلى أن الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي التي تقودها فرنسا "عمليا ونفسيا"، يمكن أن تتخذ مسارا مناهضا للتحرك الألماني، على الرغم من أن احتمالات حدوث ذلك ليست واردة بقوة على الأقل في الوقت الراهن. فألمانيا تعي تماما خطورة العزل، في محيط لا يمكنها العيش إلا فيه.
الوحدة الأوروبية باتت مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. فماريو دراجي رئيس الوزراء الإيطالي المنتهية ولايته، كان واضحا حين قال "إن غياب هذه الوحدة يعني انتصارا حقيقيا لمخططات سياسة الحكومة الروسية". المسألة الكبرى حاليا، هي توصل الدول الأعضاء في الاتحاد إلى صيغة مقبولة لطرح حزمة مساعدات في مجال الطاقة. وهذه الحزمة باتت ضرورية لكل هذه الدول، مع تراجع حجم الاحتياطيات فيها، وارتفاع أسعار الطاقة، بل صعوبة الوصول إلى الإمدادات، كما كان الأمر قبل الحرب في أوكرانيا. الخلافات لا تزال قائمة، لأن جهات فاعلة في الكتلة الأوروبية، ترى أن خطوة كهذه ستؤدي إلى اختلالات. وهذا صحيح، لكن الاحتياجات تبقى في المقدمة، خصوصا مع بدء فصل الشتاء في القارة العجوز، التي تعاني أيضا ارتفاعات عالية في تكاليف العيش، حيث يسير التضخم في أغلبية الدول الأعضاء في التكتل نحو الخانة العشرية.
لا شك في أن أي انقسام في الاتحاد الأوروبي يعد نصرا كبيرا لدعم موقف روسيا، فهذه الأخيرة تراهن على تفكيك الاتحاد، تماما مثل مراهنتها على انفراط عقد حلف شمال الأطلسي "الناتو". وهذا ما يجعل الأمر أكثر خطورة وتعقيدا، خصوصا في ظل استمرار تعامل بعض الدول الأوروبية مع روسيا، حتى إن دراجي وصفها بأنها "تمول" حكومة الرئيس الروسي. ليس هناك مخرج أمام قادة الاتحاد الأوروبي، سوى الاتفاق الداخلي بينهم. فأي خلاف يمكن أن يتوسع بسرعة، وسط أسئلة ليست جديدة حول مستقبل الكيان الاتحادي الأوروبي نفسه، ومدى صموده في الأزمات، ولا سيما في أعقاب خروج بريطانيا التاريخي منه. الموقف حرج وخطير، وعلى الرئيس الفرنسي أن يتحرك بقوة إذا ما أراد أن يحتوي أي تداعيات جديدة على صعيد أزمة الطاقة الأخطر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي