Author

أستراليا .. ضغوط وقلق آسيوي بسبب الغاز

|

قلنا في مقال سابق، إن عديدا من دول شرق آسيا بات يفكر في حل أزمة الطاقة التي تسببت فيها الحرب الأوكرانية من خلال بناء مفاعلات نووية للاستخدام السلمي. ونواصل هنا الحديث عن جانب آخر من القضية نفسها.
مما لا شك فيه أن الحرب المشتعلة في أوكرانيا منذ شباط (فبراير) من العام الجاري، التي لا يلوح في الأفق أي بوادر بقرب توقفها حتى الآن، تسببت في اضطرابات في سلاسل إمدادات الطاقة، لكيلا نقول إنها أوجدت أزمة وقود استشعرتها دول وشعوب كثيرة، من بينها أقطار شرق آسيا، خصوصا الصناعية منها. وهو ما جعل هذه الأقطار تلجأ إلى مصادر للطاقة كانت قد بدأت الابتعاد عنها، كما في حالة الصين مع الفحم، أو جعلها تفكر في مصادر للطاقة كانت قد حرمتها، كما في حالة اليابان مع المفاعلات النووية.
أما أستراليا، التي تعد نفسها دولة آسيوية، فلم تتأثر كثيرا كونها أكبر دولة منتجة ومصدرة للغاز الطبيعي المسال LNG عالميا، بل إن صناعة الغاز فيها صارت مزدهرة أكثر من أي وقت مضى، بسبب تزايد الطلب على هذه السلعة من جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية تحديدا، وهي الأطراف التي تعد أكبر ثلاث دول مستوردة للغاز المسال على مستوى العالم، بدليل أنها استوردت في العام الماضي وحده نحو 85 في المائة من صادرات أستراليا من هذه السلعة موزعة كما يلي، الصين 29 في المائة، اليابان 28.7 في المائة، وكوريا الجنوبية 16 في المائة، فمنحت أستراليا عائدات بنحو 45 مليار دولار في 2021.
غير أنه في الوقت الذي يسود فيه الاعتقاد بأن أستراليا في وضع مريح لهذا السبب، لوحظ أن حكومتها بدأت تعاني، كما الدول الأخرى، ضغوطا شعبية للتدخل في سوق الغاز لضبط أسعارها مع توفيرها لمحطات الكهرباء في طول البلاد وعرضها، بطريقة تتيح لهذه المحطات مواصلة تقديم خدماتها دون انقطاع ودون تحميل المواطن أعباء إضافية.
حدث هذا بعد أن تم تعليق العمل في السوق الرئيسة في أستراليا لبيع الكهرباء بالجملة في حزيران (يونيو) الماضي، الأمر الذي دفع وزير الطاقة الأسترالي في حينه إلى الطلب من مواطني ولاية "نيو ساوث ويلز"، التي تقع "سيدني"، كبرى المدن الأسترالية، في نطاقها، إطفاء الأنوار لمواجهة الأزمة.
كان سبب تعليق العمل اقتصاديا بحتا لأن الطلب على الغاز فاق العرض، وبالتالي كان من الطبيعي ارتفاع سعره، وهو ما دفع مشغل سوق الطاقة الأسترالية إلى وضع سقف له لحماية المستهلكين، لكن مع تواصل ارتفاع أسعار الطاقة اضطر المشغل إلى وضع سقف ثان لبيع الطاقة بالجملة. هذا علما بأن ولايات أستراليا الأكثر كثافة سكانية كانت قد سمحت لأسعار الطاقة بتجاوز سقف 15 ألف دولار أسترالي لكل ميجاواط في الساعة، لكن الشركات المولدة للكهرباء خفضت السقف، إلى 300 دولار أسترالي، حماية للمستهلك ما أدى إلى خسائر تكبدها المشغل فاضطر الأخير إلى تعليق العمل.
ويبدو أن زبائن الغاز الأسترالي الآسيويين الكبار علموا، من خلال متابعتهم ما يجري في الداخل الأسترالي، أن الضغوط الشعبية نجحت في إجبار كانبرا على التدخل مرتين منذ حزيران (يونيو) الماضي للحد من أسعار الغاز. من هنا باتوا قلقين من احتمالات تأثر حجم وأسعار وارداتهم، ويخشون أن تتخذ كانبرا إجراءات ذات تأثيرات سلبية عليهم. بعبارة أخرى، يتخوف الصينيون واليابانيون والكوريون الجنوبيون أن تلجأ أستراليا إلى الحد من صادراتها من الغاز، ومن الفحم أيضا، بهدف خدمة الطلب المحلي وكبح الأسعار داخليا، أي على النحو الذي فعلته الحكومة الإندونيسية هذا العام، حينما قيدت صادراتها من الفحم لتلبية الطلب المحلي المتزايد.
يقول المراقبون إن ما سبق هو درس يجب أن تعيه الدول المستوردة للغاز الطبيعي الأسترالي المسال لجهة جعل الاحتياطات الاستراتيجية الكبيرة من الوقود ضمن أولوياتها الوطنية، كما الحال في الولايات المتحدة مثلا. فحينما يبدأ منتج ومصدر الطاقة في الحد من إمداداته لأي سبب، سواء أكان متعلقا بارتفاع الطلب الداخلي أو لأسباب مناخية أو جيوسياسية، فإن ما سينقذ المستهلك المستورد ويضمن له نظاما مرنا لإمدادات الطاقة هو ما قام بتخزينه وما بناه من احتياطيات. ومثل هذا الدرس يجب على أستراليا أيضا أن تعيه أيضا. صحيح أنها تملك احتياطيات كبيرة من الغاز والفحم وغيرهما من أنواع الوقود، لكن الصحيح أيضا أنها تعمل بهوامش تخزين قليلة أو دونها، ما يفقدها مرونة التصرف السريع في الأزمات، خصوصا أنها قارة شاسعة ذات حكومات محلية تتباين أحيانا مواقفها في الشأن المحلي، وقد لا تلتقي مع موقف الحكومة الفيدرالية في كانبرا. من جانب آخر، تبدو قدرة أستراليا على توليد الطاقة التي تعمل بالفحم متدنية كثيرا بسبب تقدم محطاتها في العمر وإهمال صيانتها.

إنشرها