Author

معادلة الرؤية تحرك النمو

|

في الموعد تماما، وقبل ثلاثة أشهر من نهاية العام المالي، أعلنت وزارة المالية البيان التمهيدي للميزانية السعودية، متضمنا تقديرات لما ستكون عليه الحال في العام الجاري، وتقديرات العام المقبل، والتنبؤات بشأن المستقبل في المدى المتوسط. وقد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أهمية مثل هذا الإفصاح في توجيه متخذي القرار. نعلم أن الميزانية السعودية تحولت منذ انطلاق رؤية 2030، من تقديم معلومات تخدم العلاقة اللائحية بين المالية والجهات الحكومية فقط، إلى معلومات تهتم بعملية اتخاذ القرار على مستوى أصحاب المصلحة، فمثلا، لم تكن الميزانية لتعلن إلا بعد اعتمادها في مجلس الوزراء، وهذا يحدث عقب بداية السنة المالية الجديدة أو في الأسبوع الأخير من العام. هذا الأسلوب لم يكن ليمنح أصحاب القرار خارج الحكومة القدرة على التنبؤ واتخاذ قرار بشأن الائتمان خصوصا. لكن في المقابل، فإن الميزانية العامة لها دور في إحداث أو تحفيز النمو الاقتصادي. فمثلا في نيسان (أبريل) 2009، طرح قادة مجموعة العشرين فكرة أنهم سيقومون "بتوسع مالي غير مسبوق ومنسق"، للتغلب على الأزمة المالية التي اندلعت 2008، وجاء ذلك التنسيق بعد أن سادت فترات ليست بالقصيرة سياسات مالية تنزع لتقليص حجم ووظيفة الحكومة، مع ترك الأسواق تقوم بدورها في تخصيص السلع والخدمات، لكن نتيجة للظروف التي أنتجتها الأزمة المالية، عاد عديد من الحكومات إلى سياسة مالية توسعية، وذلك وفقا لنظرية مفادها أن الحكومة تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في طريقة استخدام الموارد في الاقتصاد. وهناك نموذجان شائعان بشأن مدى تأثير الحكومة في النمو، هما نموذج النمو النيوكلاسيكي، والنمو النابع من الداخل. وباختصار شديد، فإن النموذج الأول يرى أن النمو يتحقق من خلال تراكم رأس المال، لكن المحرك الرئيس للنمو هو التقدم التقني، والسياسات المالية الحكومية لديها تأثير بسيط في هذا النمو، فمع غياب التقدم التكنولوجي، فإن النمو في الأجل الطويل يتقارب بين الدول، بغض النظر عن حجم الميزانية، لكن الذي حصل طوال عقود كان مختلفا في الواقع فقد استمرت الفروق بين الدول واضحة، ولهذا ظهرت نظرية النمو من الداخل التي تصفه بأنه نتيجة عوامل تشمل تنمية رأس المال البشري كالتعليم والتدريب والخبرة، والمعرفة والبحث والتطوير والابتكار، ومع ذلك فإن الاستجابة الدقيقة للنمو الاقتصادي في النهاية تعتمد على الحيز المالي المتاح للحكومة -حجم الميزانية.
فرغم وضوح العلاقات النظرية بين العوامل، إلا أن التطبيقات العملية في الواقع كانت تشير دوما إلى شكوك تحوم حول تسبب الإنفاق الإضافي في التضخم أو فقد النقد الأجنبي أو تقلبات غير محمودة في سعر الصرف. كما يشكك البعض أيضا في قدرة الحكومات على الإنفاق بحكمة، وفي الدول ذات التضخم المرتفع أو العجز في ميزان المدفوعات، فمن المرجح أن يكون التوسع في الإنفاق غير مرغوب فيه.
هنا يمكن القول بوضوح إن نجاح أي خطة مالية "موازنة" يعتمد على توجيه الإنفاق نحو تنمية رأس المال البشري "النمو من الداخل"، بأشكال الإنفاق المعروفة على الصحة والتعليم وغير ذلك من أوجه الإنفاق، وفعاليته وتوقيته، أي أن تكون الظروف النقدية ملائمة. هناك مشكلة أيضا في مسألة توسع الإنفاق الحكومي تأتي في شكل مقايضة بين التوسع في الدعم من أجل الحماية الاجتماعية للفقراء ومتوسطي الدخل، وبين تمويل الاستثمارات الرأسمالية، التي قد تصنع فرص عمل وتساعد على تعزيز النمو على المدى الطويل. وأثبتت التجارب والدراسات أن نجاح السياسيات المالية الحكومية التي تتم ترجمتها في شكل ميزانية عامة تعتمد في نهاية المطاف على نهج متوازن في جميع هذه المجالات.
والمتأمل للسياسات المالية التي انتهجتها المملكة بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين ومتابعة وإشراف وتنفيذ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء، يجد أن المملكة قد ضربت أروع الأمثلة التطبيقية على تحقيق منهج متوازن منذ انطلاق برنامج التوازن المالي كأحد أهم برامج الرؤية في 2016، الذي تم تحويله الآن إلى برنامج الاستدامة المالية، بعد أن حقق جميع مستهدفاته التي وضعت له حتى 2020.
ومن الملاحظ أن السياسية المالية السعودية قبل الرؤية كانت تحوطية، تبقي حجم الإنفاق عند مستويات متحفظة خوفا من تقلبات أسواق النفط، لأن المالية العامة كانت ترتكز على هذا المصدر الأساس، ولهذا أيضا كان من الصعب وضع تصورات عن المالية العامة وسياسات الإنفاق لأكثر من عام واحد، لكن برنامج التحول الوطني ومن ضمنه "التوازن المالي" قلب المعادلة تماما. هذا التحول في السياسات المالية وما نجم عنه من إصلاحات هيكلية، منح المالية العامة قدرة على السيطرة على العجز في المرحلة الأولى من برنامج التوازن كنسبة من الناتج المحلي، فانخفض من 15.8 في المائة في 2015 إلى 4.5 في المائة في 2019، وفي الوقت نفسه تم تعزيز الإيرادات غير النفطية من 185 مليارا 2016 متجاوزة 360 مليارا 2020 بنسبة نمو تصل إلى 93 في المائة، بينما تجاوزت النفقات حينها تريليون ريال وذلك للمرة الثالثة أي منذ 2018، التي بلغت النفقات فيها 1079 مليار ريال، وهذا يؤكد انتهاج الحكومة سياسية توسعية مستدامة من أجل تحقيق نمو اقتصادي مستدام، وهذا يعتمد على مدى نجاحه في تحقيق نهج متوازن، مع الالتزام المستمر بحوكمة جيدة وصرامة ضد الفساد. وكانت التجربة السعودية محل مراقبة دولية خاصة من قبل صندوق النقد الذي أكد في آخر تقارير له نجاح التجربة، التي تثبتها اليوم أرقام البيان التمهيدي للميزانية، وبما يؤكد تجاوز حجم الاقتصاد السعودي، ووفقا للناتج المحلي، حاجز ترليون دولار، حيث سيبلغ 3.927 تريليون ريال (1.047 تريليون دولار) في 2022، وذلك تزامنا مع وصول حجم النفقات إلى 1132 مليار ريال، ما يعكس استمرار التوسع التنموي من أجل دعم النمو الاقتصادي، كما أفصحت المالية العامة أنها تستهدف أن يتجاوز حجم الاقتصاد السعودي مستوى أربعة تريليونات ريال خلال 2025 لأول مرة، من خلال تحقيق نمو سنوي متواصل. فالمسيرة الاقتصادية واضحة في السياسات المالية مع مصداقية عالية أثبتتها الأعوام التي تلت الرؤية، ومع ما تحقق من نجاح لبرنامج التوازن المالي، ثم ما سيتحقق مع برنامج الاستدامة المالية وما تحقق من هذه المستويات الطموحة من النمو، هذا مع سيطرة واضحة على التضخم الذي بلغ أقل من 3 في المائة، رغم التغيرات المتلاحقة في أسعار الفائدة العالمية، التي تأتي في وقت تحولت الميزانية من العجز الذي تطلب الاقتراض إلى الفائض الذي يعزز الاحتياطيات ويمكن من تسديد الدين العام دون أن يتأثر الإنفاق الحكومي. إنه توازن قلما تحققه دول في الوقت الذي كان متاحا للحكومة، لكن دقة التخطيط والتوقيت السليم مع الالتزام الدقيق بالتنفيذ، مكن من الفوز باللحظة الراهنة.

إنشرها