الذكاء الاصطناعي .. فرصة ذهبية أم فقاعة منتظرة؟
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية أو أداة طورتها العلوم، بل أصبح حديثًا يتجاوز فقاعات التكنولوجيا. يشعر العديد بالحماسة تجاه الإمكانيات الرائعة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي لمستقبل التعليم والرعاية الصحية. بينما يشعر آخرون بالقلق والريبة من أن بعض الحكومات والشركات لديها دوافع خفية، خاصة حول السيطرة. يرون سباقًا يتشكل سيكون الفائز فيه قادرًا على إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي ثم الهيمنة عليه في المستقبل. وهذا المستقبل يقترب منا بسرعة.
التدافع نحو الريادة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي نتج عنه استثمارات ضخمة تم تخصيصها للقطاع. فالشركات تتجه إلى الاستدانة أو استخدام فوائضها المالية لتوفير التمويل وتعزيز الإنفاق على الذكاء الاصطناعي، كما تسخر الحكومات ميزانياتها وصناديقها السيادية للاستثمار في شركات ذات علاقة بالتقنية. ولعل المثال الأبرز في وقتنا الحالي يتمثل في مشروع "ستارجيت" الهادف إلى توفير بنية تحتية قوية للذكاء الاصطناعي، وتقوده شركة "أوبن أيه آي" باستثمارات تصل إلى 500 مليار دولار ودعم مباشر من الحكومة الأمريكية.
هذه التوجه يمتد إلى الأسواق في سلاسل التوريد مثل الرقائق والخوادم وأسواق الأسهم العالمية. ففي بورصة ناسداك، تجاوزت القيمة السوقية لشركة "إنفيديا"، المصنعة للرقائق المستخدمة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، مستوى 4.3 تريليون دولار، بارتفاع تراكمي وصل إلى 439% منذ بداية 2023 حتى أغسطس 2025. إنفيديا لم تكن استثناءً؛ فمختلف شركات التكنولوجيا الكبرى المطورة لنماذج الذكاء الاصطناعي حطمت قيمتها السوقية في أسواق الأسهم مستويات قياسية، وعلى رأسها مايكروسوفت وجوجل وميتا.
وفي ظل هذا الزخم حول الذكاء الاصطناعي، خرج للعالم سام ألتمان، المدير التنفيذي لشركة "أوبن أيه آي" المطورة لنموذج "تشات جي بي تي"، ليحذر من فقاعة استثمارية في سوق الذكاء الاصطناعي. أعاد ذلك إلى المستثمرين والأسواق ذكريات مريرة ترجع إلى بداية القرن الحالي، مرتبطة بما يعرف بفقاعة "الدوت كوم"، حين انهارت أسهم شركات الإنترنت والاتصالات في السوق الأمريكية بعد أن شهدت أسهمها ارتفاعات قياسية، دون أن تقابلها إيرادات أو أرباح تتماشى مع نمو أسعار الأسهم.
يشكل ذلك جرس إنذار للمستثمرين؛ فالمبالغة في تقييم أسهم شركات الذكاء الاصطناعي دون أن يصاحب ذلك نمو في الإيرادات تحمل مخاطر تهدد استقرار الأسواق. لذلك، فهم بحاجة إلى مزيد من التريث والتحكم في حماستهم تجاه ما يحمله المستقبل بالنسبة للذكاء الاصطناعي، والتركيز على الأداء العام في الوقت الحاضر، والوسائل المتاحة لتنويع الإيرادات.
ففي بداية 2025، أحدث نموذج "ديب سيك" للذكاء الاصطناعي المطور من جانب شركة صينية الذعر في أسواق التكنولوجيا. فالتكلفة المنخفضة لتطوير وتدريب النموذج، والتي وصلت إلى 6 ملايين دولار مقارنة بمليارات الدولارات التي تم إنفاقها لتطوير نماذج مشابهة في الولايات المتحدة، حملت في طياتها مخاطر تهدد نماذج العمل المتعارف عليها، وتدفع المستثمرين لإعادة تقييم إستراتيجياتهم تجاه القطاع.
يواجه الذكاء الاصطناعي مخاطر أخرى متعلقة باستخدامه كأداة جيوسياسية بين الدول، حيث تتنافس أهم القوى الاقتصادية، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة، على الريادة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، واستخدامها كورقة ضغط لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية. يحمل ذلك مخاطر جوهرية، أهمها احتكار تلك التقنيات والتحكم فيها واقتصارها وعوائدها على عدد محدود من الدول.
يظل التاريخ هو خير معلم. وفي قطاع التكنولوجيا، تظل أزمة الدوت كوم الهاجس الأكبر للمستثمرين، حيث خسرت الأسواق المالية العالمية أكثر من 5 تريليونات دولار من القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا والإنترنت بين عامي 2000 و2002. يعلمنا التاريخ أن الإفراط في الحماسة تجاه قطاع واعد، وخلق تقييم غير واقعي لأسهم شركاته، تكون نهايته بمنزلة كابوس.
وإن كانت الأسواق قد استطاعت امتصاص آثار فقاعة الدوت كوم في بداية القرن، فإن فقاعة الذكاء الاصطناعي قد تكون عواقبها أكثر وخامة؛ فقطاع التكنولوجيا اليوم يعادل في أهميته للاقتصاد العالمي أضعاف ما كان عليه في تلك الفقاعة الشهيرة.
ويحتاج الفاعلون في القطاع إلى أن يكونوا أكثر واقعية، وأن يكون هدفهم الأساسي ليس المضاربة، وإنما خفض تكاليف تطوير الذكاء الاصطناعي، وتعزيز انتشاره، والتوسع في استخدامه في القطاعات ذات الأولوية مثل الصحة والتعليم.
مستشارة اقتصادية