Author

مستقبل مشرق لصناعة الرقائق الإلكترونية

|

شهدت صناعة الرقائق الإلكترونية تطورا تقنيا كبيرا خلال العقود الماضية. وتدخل الرقائق الإلكترونية في تركيبة وصناعة معظم الأجهزة، وأضحت عنصرا أساسيا في تكوينها وتشغيلها والاستفادة منها. وكانت الصناعة قبل جائحة كورونا تلبي الطلب المتصاعد على منتجاتها بسلاسة وانتظام. أما بعد نشوب الجائحة، فقد تعثرت إمداداتها من جراء قيود العمل وتعطل بعض حلقات سلاسل الإنتاج، ما خفض العرض. أما من جهة الطلب، فقد غيرت الجائحة وسرعت في الوقت نفسه التغيرات التقنية وأساليب العمل والإنتاج عن بعد، محفزة بذلك الطلب على الشرائح الإلكترونية. قادت تطورات العرض والطلب إلى عجز في أسواق الشرائح الإلكترونية أثر سلبيا في إنتاج الأجهزة والمعدات والآلات الأكثر اعتمادا عليها. وتدخل الشرائح الإلكترونية بقوة في صناعات كثيرة، أبرزها وأهمها: صناعات الحواسيب والجوالات والسيارات والأسلحة والمعدات الإلكترونية والكهربائية عموما.
رفع التطور التقني خلال العقود الأخيرة الاعتماد على الشرائح الإلكترونية صغيرة الحجم، التي تقل مساحتها في الأغلب عن بوصة مربعة واحدة، وتحتوي على مليارات الترانززستورات. ويعتقد بأن الشرائح الإلكترونية أضحت الصناعة الأكثر تعقيدا وتقدما تقنيا بين مختلف الصناعات. وأظهرت تطورات سلاسل الإنتاج أخيرا مدى اعتماد العالم على الشرائح الإلكترونية، التي يتركز إنتاجها النهائي في جزيرة تايوان. وتنتج أكبر شركة لإنتاج الشرائح الإلكترونية في تايوان نحو نصف الإنتاج العالمي. وأدى تعطل إنتاج تلك الشركة إلى معضلة كبيرة في أسواق السيارات والأجهزة الإلكترونية. ونتيجة لنقص الشرائح الإلكترونية، انخفض إنتاج السيارات عبر العالم في 2021 بنحو 15 في المائة، مقارنة بـ2019. كما تأثرت إمدادات الجوالات والحواسيب، ما ضغط على أسعارها. وولد العجز في إنتاج الشرائح عجزا لاحقا في أسواق السيارات والأجهزة والمعدات، ما رفع الأسعار وأسهم بقوة في رفع معدلات التضخم العالمي.
تتطور صناعة الشرائح الإلكترونية بسرعة، وينمو الطلب على منتجاتها بمعدلات تفوق معدلات النمو العالمي. وقدر بعض المصادر مبيعات الشرائح الإلكترونية بنحو 600 مليار دولار العام الماضي. ومن المرجح نمو مبيعات الشرائح الإلكترونية بمعدل سنوي يصل إلى 8 في المائة خلال العقد الحالي، ما سيدفع بتجاوز حجمها إلى أكثر من تريليون دولار في غضون ثمانية أعوام. رفعت تطورات الاقتصاد العالمي خلال العامين الماضيين حساسيته لإنتاج الشرائح التي تدخل في صناعات متعددة تقدر قيم إنتاجها بتريليونات الدولارات، وتوظف ملايين العمالة، وتسهم بفاعلية في الناتج المحلي العالمي. ومن المتوقع زيادة استخدام الرقائق الإلكترونية في صناعات متعددة، من أبرزها: صناعة السيارات التي ستصل مساهمتها في بعض الأنواع إلى 10 في المائة من القيمة الإجمالية للمركبة.
تبدو تطلعات صناعة الشرائح الإلكترونية مشرقة على الأمد الطويل، حيث يتوقع ازدهارها خلال الأعوام المقبلة، نظرا إلى التطورات التقنية المتلاحقة في معظم المجالات، وأساليب إنتاجها، وازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
من جانب آخر، تؤثر التطورات الاقتصادية والسياسية في مسيرة الصناعة المعتمدة على ترابط سلاسل الإنتاج بين المصممين ومنتجي موادها الخام والوسيطة، وأماكن تجميعها وصناعتها. وتحتاج الشرائح إلى بيئة معينة في أماكن الإنتاج، كما يجري تصميم الشرائح في الدول المتقدمة، وخصوصا الولايات المتحدة. أما تجميعها وصناعتها النهائية، فيتركز في تايوان، وإلى حد أقل في كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان. وأثارت التطورات الأمنية حول تايوان مخاوف العالم حول إنتاجها وإمداداتها. وهنا ينبغي التنويه إلى أن استيلاء الصين على مصانعها لن يمكنها من احتكار الصناعة، حيث تحتاج سلاسل إنتاجها إلى الدول الأخرى، وإنما سيقود إلى عجز كبير في إمداداتها، ويؤثر سلبا في الاقتصاد العالمي لأعوام مقبلة.
أظهرت تطورات أزمة كورونا تركز الصناعة في تايوان، وأبرزت إلى الواجهة أهميتها القصوى للصناعات الأخرى، خصوصا الاستراتيجية، ما دفع العالم إلى السعي إلى نشر صناعتها عبر دول متعددة. ودفعت هذه التطورات الحكومة الأمريكية، إلى تبني برنامج دعم ضخم لصناعة الشرائح الإلكترونية في الولايات المتحدة تزيد تكاليفه على 50 مليار دولار. ونتيجة لهذا البرنامج الضخم، تتسابق الشركات الأمريكية حاليا إلى ضخ استثمارات هائلة في هذه الصناعة داخل الولايات المتحدة، ما سيسرع تطويرها ويحفز إنتاجها. إضافة إلى برنامج الدعم، تفيد بعض المصادر بسعي الولايات المتحدة إلى تكوين تحالف بينها وكل من: تايوان، كوريا الجنوبية، واليابان للهيمنة على إنتاج الشرائح الإلكترونية. وتملك أمريكا معظم تقنيات الشرائح الإلكترونية، بينما يجري إنتاج أغلبها في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان. وترتفع أهمية الشرائح الاستراتيجية من جراء اعتماد صناعة الأسلحة والمعدات العسكرية المتزايد عليها. ولهذا، لا تقتصر أهميتها على الجانب الاقتصادي فحسب، وإنما تلعب أدوارا في التفوق العسكري والاستراتيجي، وفي مجال التنافس بين القوى العالمية الكبرى، خصوصا بين الصين والولايات المتحدة.
لا يبدو حاليا أن هناك صناعة قائمة للشرائح الإلكترونية في المنطقة العربية بما فيها الخليج. لذلك تحتاج المنطقة إلى جهود مضاعفة وجبارة ومتكاتفة لإنشاء هذه الصناعة وتطويرها واللحاق بالعالم المتقدم والتنافس معه في إنتاجها. ويتطلب بناء الصناعة وتطويرها بناء الأسس التقنية، والبحث العلمي، والحصول على الخبرات والكفاءات المتقدمة للعمل بها. كما ترتفع أهمية ضخ وتسارع استثمارات ضخمة في بناء هذه الصناعة، وزيادة استخداماتها المحلية، واستغلال الحاجة إلى انتشارها للدخول في سلاسل إنتاجها العالمي.

إنشرها