Author

قطاع ثالث للخدمات الصحية

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
صدر في الأسبوع الماضي قرار مجلس الوزراء بالموافقة على نقل ملكية الأصول، ومنح الحقوق، ونقل الالتزامات والحقوق المالية والتعاقدية للدولة، ذات العلاقة بالخدمات الصحية التي تقدمها وزارة الصحة، إلى شركة الصحة القابضة أو أي من شركاتها التابعة. وفي الطريق مبادرات أخرى. وكان مجلس الوزراء قد وافق قبل فترة أيضا على الترخيص بتأسيس شركة الصحة القابضة. وجاء في القرار نقل الموظفين والعاملين ذوي العلاقة بتقديم خدمات الرعاية الصحية بمستوياتها ـ التابعين لوزارة الصحة ـ إلى شركة الصحة القابضة أو أي من شركاتها التابعة.
انطلقت المبادرات من رؤية المملكة 2030، التي تحدثت عن الحاجة إلى تطوير نظام صحي يستوعب احتياجاتنا الصحية الحالية والمستقبلية، على أسس غير تقليدية في طريقة تمويله وإدارته وتقييمه وتطويره.
هل تعني تلك المبادرات أن الخدمات الصحية ستكون غير مجانية؟ ما التأثير في طبيعة ومستوى تلك الخدمات؟ الموضوع يناقش على المستوى العالمي. لكن من المهم ابتداء وجود فهم للمسميات. فكثير من الجدال مصدره سوء فهم للمسميات ودلالاتها.
من أهم وظائف الحكومات تصحيح فشل السوق في توفير سلع تسمى اصطلاحا السلع العامة. وقد تسمى الحكومة بالقطاع العام. لكن مسمى قطاع عام في الغالب أوسع، حيث يشمل أيضا الشركات والمؤسسات التي تعد ملكيتها أو سيطرتها خاضعة لحكومة الدولة. ومن باب التوضيح، قيام أو تحول أجهزة حكومية إلى شركات ليس تخصيصا. ذلك أن التخصيص أو الخصخصة تعني التحول إلى القطاع الخاص. وطبيعة هذا القطاع توفير تلك السلع المسماة بالسلع الخاصة، وتوفيرها في السوق بغرض تحقيق ربح. ولا يعني ذلك الحصر، عدم إمكانية وجود أهداف أخرى.
ما خصائص السلع العامة "ويدخل في ذلك الخدمات" بلغة مبسطة؟ أهم خصيصة أنها لا تباع ولا تشترى في الأسواق، لأن استهلاك أو استفادة الفرد من السلعة لا يستلزم استبعاد غيره من المشاركة في الاستهلاك. الأمن والدفاع وشبكة الطرق ودعم العلوم والتنمية واستقرار الاقتصاد وتحسين الصحة العامة وعموم المصالح العامة أمثلة. ولا قيام للمدنية والحضارة دون السلع العامة.
أما السلع الخاصة، فقائمة أصلا على أن الاستبعاد من طبيعتها. مثلا، عندما تشتري طعاما، أو تشتري أو تستأجر سيارة أو بيتا، فهذا يعني أنك تملك حق استبعاد الآخرين من مشاركتك في الاستهلاك.
ماذا بشأن الخدمات الصحية؟ الأصل أنها سلعة خاصة، لكن لها خصائصها. والقطاع العام يوفرها بما يبدو ظاهريا أنه مجان في دول كثيرة، وقلت ظاهريا، لأنه حقيقة لا غداء مجانيا. من المؤكد أن توفيرها لم يكن ليحصل دون دفع نفقات باهظة. وهناك خيار آخر. للدول أن تدفع للناس الذين يحق لهم في السابق الحصول على الخدمة مجانا، ممكن أن تدفع لهم بطرق أخرى، على رأسها مبلغ التأمين. ويتقاضى موفرو الخدمات الصحية من شركات التأمين مقابل خدماتهم.
وهنا يأتي السؤال عن أي الطريقين أحسن بالنسبة إلى الخدمات الصحية؟ والكلام ليس عن دولة بعينها. هذا يقود إلى نقاش عن الفرق بينهما من حيث الجودة والكفاءة والتكلفة. كما يقود إلى نقاش عن الفرق بين شركة حكومية وشركة خاصة من حيث الجودة في توفير الخدمات الصحية. وتوفير الخدمة عن طريق شركات حكومية هو ما يمكن أن نعده قطاعا ثالثا.
لا توجد إجابات قطعية، والأمر في محصلته غلبة اجتهادات. وهذه الاجتهادات مرتبطة بتفاصيل وعوامل كثيرة، تؤثر سلبا أو إيجابا في الأداء والتكلفة والفاعلية وغيرها من معايير للحكم على التخصيص.
إلا أنه يمكنني أن أختصر المحصلة النهائية في العبارة التالية، "الفحوص للمريض في المركز أو المجاني أقل من اللازم وفي الخاص أكثر من اللازم". هذه خلاصة دراسات للمقارنة بين الرعاية في العيادات والمراكز والمستشفيات العامة المجانية والخاصة غير المجانية، وتعكس فروقا في تكلفة الخدمة تأسيسا وتشغيلا، وفي بواعث تقديمها.
يمكن مبدئيا أن نستنبط من العبارة السابقة حالة بين الحالتين، يعبر عنها بما يلي باختصار، "الفحوص للمريض في مركز أو مستشفى شركة حكومية عادة أكثر مما يتوقع إجراؤه في المركز أو المستشفى الحكومي المجاني، وأقل مما يتوقع اجراؤه في المركز أو المستشفى الخاص".
النتيجة السابقة لا تنطبق بالضرورة على كل فرد، ولا يصلح أن تؤخذ هكذا بمعزل عن تفاصيل أخرى. مثل مقارنة طريقة معاملة الطبيب ماديا وسياسة شركة التأمين في الدفع ومستويات الأطباء وحدود الحوافز المادية لمقدمي الخدمات الصحية ونحو ذلك. كما أنه لا يمكن أن يستنتج منها أن النتيجة "حصول العافية من المرض" في المستشفى الخاص بالضرورة أفضل من المستشفى الحكومي أو العكس فهناك عوامل أخرى يجب أن تراعى.
تلزم عادة أنظمة العمل في الدول بالتأمين الصحي. وهناك نقطة جوهرية تخص بلادنا.. تزايد الحاجة إلى التأمين الصحي مع زيادة السكان وجهود وبرامج السعودة وبرنامج التحول الوطني وتطبيق نظام العمل على نشاطات كثيرة كانت في السابق لا تخضع لهذا النظام.
ومع برامج تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على الإنفاق الحكومي الممول من صادرات النفط، ومع هدف السعودة، فإن المحصلة تعني زيادة الحاجة إلى خدمات طبية بمقابل تدفعه عادة شركات التأمين الصحي. باختصار، الرعاية الصحية قطاع كبير وسريع النمو، ولها تعقيدات، ما يتطلب الضبط والحوكمة. ورأت حكومتنا التوسط في الأمر عبر بناء شركة صحية حكومية. ويمكن عد هذا البناء قطاعا ثالثا، وبالله التوفيق.
إنشرها