Author

ملحمة التنمية وحكاية التغير السكاني

|
المجتمعات لا تثبت أبدا على حال، بل تشهد تغيرا مستمرا. أحيانا يكون ملحوظا وبوتيرة سريعة، وأحيانا بطيئا لا يكاد يلحظه أحد. ومجتمعنا يشهد ـ بحمد الله ـ تغيرات تنموية واجتماعية رائعة في مجالات الحياة المختلفة، ما يستدعي الابتهاج أحيانا، والتأمل والاهتمام أحيانا أخرى. فقد كان أغلب السكان في الجزيرة العربية بدوا رحلا يتنقلون بحثا عن الماء والكلأ، أو يعيشون في واحات صغيرة حباها الله وفرة المياه من العيون أو بطون الأودية.
ونتيجة لاستتباب الأمن بعد توحيد المملكة على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، ثم اكتشاف النفط، الذي حرك عجلة التنمية بوتيرة أسرع، وما تبعه من تشجيع للاستقرار في المدن والقرى والهجر، بدأت ملحمة التنمية في طفرات كبيرة متلاحقة، واحدة تلو الأخرى وصولا إلى رؤية المملكة 2030 ومستهدفاتها الطموحة، وذلك بفضل الله، ثم بفضل القيادة الحكيمة، في وطن طموح ومجتمع حيوي، ما أحدث نموا سكانيا سريعا قفز بعدد السكان من سبعة ملايين في 1974 إلى 34 مليونا في الوقت الحاضر.
هذه الملحمة تنطوي على موسوعة من التغيرات المتنوعة في مجالات الحياة كافة، ومنها تركيبة الأسرة وأدوار أفرادها، فقد انكمشت الأسرة الممتدة، التي كانت تحتضن كبار السن وترعى صغارها في تناغم جميل يتناسب مع زمنها، لتحقق في ذلك الوقت متطلبات العيش، وتعكس قيم التكامل والتكافل، وكان هذا النمط الأسري فاعلا من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، لكن الأمر لم يعد كذلك في الوقت الحاضر، فقد أصبحت الأسرة الممتدة عبئا اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا على أفراد الأسرة، لذلك انكمشت مع تغير المفاهيم الحياتية وانتفاء الحاجة الاقتصادية.
واكب ذلك انخفاض تدريجي في معدلات الإنجاب "الخصوبة" من سبعة مواليد للمرأة في المتوسط في منتصف 1985 إلى أقل من ستة في بداية التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، ثم إلى ثلاثة بنهاية العقد الأول من القرن الحالي، لدرجة الاقتراب من مستوى الإحلال "أي طفلين تقريبا" في وقتنا الحاضر.
هذا التغير في الإنجاب أدى إلى انخفاض نسب صغار السن "دون سن 15 عاما" من نحو 50 في المائة من سكان المملكة في 1992 إلى أقل من 30 في المائة في الوقت الحاضر، وكذلك انخفاض نسب إعالة الصغار من 104 إلى أقل من النصف، أي 46 في المائة خلال الفترة نفسها. وأدى هذا التغير إلى ما يعرف بالنافذة الديموغرافية، وعائدها الديموغرافي الذي ينتج عنه أربعة أمور، هي: (1) زيادة الادخار نتيجة انخفاض الإعالة، ومن ثم استخدامها لتحفيز النمو الاقتصادي. (2) زيادة العرض من العمالة من خلال النافذة الديموغرافية، أي حدوث زيادة كبيرة في القوى العاملة بمن فيهم النساء. (3) تنمية رأس المال البشري نتيجة انخفاض المواليد وتمكن الوالدين من تخصيص موارد أكبر لكل طفل، ما يؤدي إلى تحسن مخرجات التعليم وتحقيق وضع صحي أفضل. (4) تحقيق نمو اقتصادي من خلال ارتفاع الناتج المحلي نتيجة انخفاض نسب الإعالة.
هذا التقدم الهائل لا يحدث دون ثمن، فمن الملاحظ ارتفاع معدلات الطلاق خلال الأعوام الأخيرة، إذ تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن عدد حالات الطلاق "57 ألفا" يصل إلى أكثر من ثلث حالات الزواج "150 ألفا"، وقد يعزز ارتفاع معدلات الطلاق، أي الخروج من الحياة الزوجية، تأثير العوامل السابقة في خفض معدلات الخصوبة.
ومن الطريف في هذا السياق أن هذه العمليات الديموغرافية كانت في سباق مع القائمين على إعداد السياسة السكانية للمملكة التي بدأ العمل بها قبل 15 عاما أو أكثر، وكان من ضمن الأهداف الضمنية خفض معدل الإنجاب، الذي كان يشار إليه في النسخ الأولى من هذه الوثيقة تلميحا أو على استحياء، من خلال الدعوة للمباعدة بين المواليد. وبالفعل، تحقق ذلك دون أي تدخل مباشر من الدولة، بل بفعل المتغيرات التنموية المتمثلة في الالتحاق بالتعليم، والهجرة من القرى إلى المدن، ومشاركة المرأة في قوة العمل، وتحسن المعيشة والصحة العامة، التي انعكست على انخفاض وفيات الرضع، علاوة على التأثر بثقافة الأسرة النووية الصغيرة. كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى ارتفاع سن الزواج وانخفاض الاعتماد على الأبناء عند الكبر، ومن ثم تغيير مفهوم التكلفة والعائد من الإنجاب.
أخيرا، بدلا من القلق من الانفجار السكاني وارتفاع معدلات الخصوبة، أصبح الاهتمام يتركز حول انخفاضها السريع، وضرورة دراسة اتجاهاتها وآثار انخفاضها المتوقعة في التركيبة السكانية.
إنشرها