default Author

استقلالية البنوك المركزية والسياسة النقدية «3 من 3»

|
وضعت الجائحة التي بدأت نهاية عام 2019 وبداية عام 2020 البنوك المركزية في وضع يختلف تمام الاختلاف عن تلك المبادئ. ففي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، اضطلعت البنوك المركزية مجددا في بعض الأحيان بدور بعض الأطراف الأخرى بحكم الواقع، نظرا لأن البيئة الدستورية العامة تحرم المسؤولين المنتخبين من سلطة اتخاذ أي قرارات حاسمة.
وعند تقييم الجانب السياسي الدستوري للإجراءات الاستثنائية التي تتخذها البنوك المركزية للحفاظ على اقتصاداتنا، بما في ذلك ضمان وصول النقد إلى الأسر والشركات، فمن الضروري أن نميز بين التسهيلات التي يقدمها البنك المركزي كجهة مستقلة، وتلك التي يقدمها كجهة تابعة، فمن ناحية، يمارس البنك المركزي مهامه المكلف بها بحرية، لكنه مضمون من وزارة المالية، نظرا لأن الخطر النهائي يقع على كاهل دافعي الضرائب.
وعلى الجانب الآخر، يعمل البنك المركزي نيابة عن الحكومة، ويقتصر دوره في هذا السياق على تنفيذ القرارات الاستنسابية لوزير المالية دون أن يتحمل أي مخاطر، ولا يقدم أي تمويل نقدي مباشر أو غير مباشر إلا إذا قرر ذلك بصورة مستقلة. ولا يتعارض أي من ذلك مع دور البنك المركزي كمؤسسة مستقلة. لكن بخلاف ما سبق، يتم تقديم تسهيلات من الميزانية العمومية للبنك المركزي بناء على تعليمات من الحكومة، كما يتم إجراء عمليات تقيد في الميزانية العمومية للحكومة وتمول بالقوة من خلال طباعة النقود.
وعند تقييم أي من هذه التدخلات لا يمكن في ظل استقلالية البنك المركزي تحديد الجهة التي اتخذت قرار التدخل بالفعل. لكن عند تعليق الاستقلالية تصبح الأمور واضحة، بما في ذلك مسار الخروج.
وأمام هذه الاحتمالات، يجب أن نتذكر أنه دائما ما كان هناك أعداء للاستقلالية، ففي حال وجود سجال كبير لهدم الدستور النقدي للاقتصاد، يمكن لهؤلاء استخدام إحدى استراتيجيتين شاملتين يختلف كل منهما اختلافا واضحا عن الآخر.
وتتمثل إحدى طرق إصلاح البنوك المركزية في إجراء تعيينات جديدة، وكما شهدنا أخيرا في الولايات المتحدة، لا يكون من السهل تعيين المرشحين المرغوب فيهم في حالة عدم استيفائهم المؤهلات المعتادة. لكن المشكلة الأكبر تكمن في تعيين أشخاص يبدو كأنهم خيار معقول بل ممتاز، ليتضح فيما بعد أنهم حلفاء أوفياء سريون لكبار الساسة. والحالة الأشهر على الإطلاق وحدثت خلال فترة سادتها الاضطرابات أيضا، هي تعيين رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق أرثر بيرنز، الاقتصادي البارز الذي دعم إعادة انتخاب ريتشارد نيكسون عام 1972، بالمخالفة للدور القانوني المنوط ببنك الاحتياطي الفيدرالي. وينبغي عدم الاعتقاد أن هذا آخر مثال لعميل سياسي استطاع الوصول إلى دهاليز السلطة النقدية.
وتتمثل الطريقة الأخرى لتقويض الاستقلالية في تغيير مهام وصلاحيات البنك المركزي. ويكون ذلك في أبسط صوره من خلال التصويت ضد فعالية قانون البنك المركزي أو إلغائه، ولن يكون ذلك بالأمر اليسير، نظرا لأنه سيتم تحت مرأى ومسمع من الجميع. وتقوم هذه الاستراتيجية الماكرة، التي تكاد تكون متناقضة، على منح البنك المركزي مسؤوليات أكبر، حيث يشعر أي مسؤول مخلص لواجبه بضرورة التشاور مع القادة السياسيين حول كيفية استخدام سلطاته الواسعة، وكلما انصاعت البنوك المركزية لفكرة كونها كيانات فريدة لا بديل لها، بل ربما شعرت بالفخر بهذه التسمية، سيكون من الأسهل على السياسيين تكليفها بمزيد، ومن ثم تقويضها.
إذا رغبت المجتمعات في الحفاظ على قاعدة استقلالية البنك المركزي كوسيلة لدعم استقرار النظام النقدي والفصل بين السلطات في شؤون المالية العامة، وإذا أردنا أن نكون قادرين على استعادة الاستقلالية عقب انتهاء الأزمة التي نشأت عن الجائحة، فلا بد من توخي الحرص. وها هي خمس خطوات لتحقيق ذلك:
* تحديد مسار لخروج البنك المركزي من دور الذراع التنفيذية لوزارة المالية، واستعادة استقلاليته بمجرد انتهاء الجائحة، ومنحه السلطة اللازمة لاتخاذ قرارات منطقية يمكن تفسيرها.
* تعديل النظم النقدية للسماح بتنفيذ سياسات تحقيق الاستقرار عندما يتكرر الوصول إلى الحد الأدنى الصفري "في حال عدم تحسن مستويات نمو الإنتاجية".
* مراجعة المهام والصلاحيات اللازمة لتحقيق الاستقرار، بما في ذلك إعداد سياسة عامة لصيرفة الظل، ووضع معیار قانوني لقياس صمود النظام المالي، وتحديد حد أقصى إلزامي لإقراض الشركات التي تعرضت للإفلاس، وزيادة الاستقلالية عن القطاع، وقد تكون مجموعة الإجراءات تلك قد أسهمت بالفعل في إبطاء مفعول تدابير رفع القيود التي اتخذت بشكل متسرع وطائش على مدار الأعوام الماضية، وأدت إلى فرط الرفع المالي في أسواق التداول عندما اندلعت أزمة الجائحة.
* التقييد الذاتي لمحافظي البنك المركزي، حيث يقتصر دورهم عند الحصول على استقلاليتهم على مهمة الحفاظ على استقرار النظام النقدي بدلا من إبداء استعدادهم لحل جميع المشكلات التي تواجه المجتمع.
* التحلي بدرجة كبيرة من اليقظة والوعي في التعامل مع المحاولات الماكرة المتكررة لإعادة الزج بالبنك المركزي في المعترك السياسي لخدمة مصالح قطاعات بعينها، فما نسعد به اليوم قد نشقى به غدا، وتعد السياسة تجارة انتهازية، كما لا توجد متابعة دقيقة لتلك المحاولات الماكرة التي تحيق بالمؤسسات النقدية. وأيا كانت المبررات الملحة الحالية، وهي مبررات واقعية وطارئة بالفعل، من المهم الحفاظ على نزاهة مؤسساتنا على المدى الأطول.
إنشرها