الأموال السهلة وسلوكيات الإقراض

كل دول العالم تخشى من الركود الاقتصادي، الذي أصبح متوقعا أكثر من أي وقت مضى، مع إقدام المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على رفع الفائدة الأساسية، وعزمه على مواصلة زيادتها تدريجيا حتى نهاية العام الجاري على الأقل. هذه الخطوة التي يمكن وصفها بالنادرة، أجبرت بنوكا مركزية رئيسة في العالم على اتباعها، لأسباب تتعلق بمحورية الدولار الأمريكية في الميدان المالي العالمي، وترتبط بكل تأكيد بمستويات التضخم المتزايدة في الدول المتقدمة على وجه الخصوص.
والتشديد المالي الذي تعرض للتخفيف في مراحل متعددة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أدى بالفعل إلى نتائج مختلفة طبقا للظروف بين مرحلة وأخرى، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور ما اصطلح على تسميته بـ"المال السهل"، وهذا الأخير أدى كما هو معروف إلى انفجار أزمة مالية عالمية فادحة في 2008، بقيت آثارها في الساحة لأكثر من عقد من الزمن.
الخوف من أزمة مالية عالمية جديدة يتزايد، وفق عدد من الخبراء ولا سيما على الساحة الأمريكية، وستكون "بنوك الظل" أي المصارف التي تبحث عن مخارج لتوفير الأموال السهلة على رأس تلك الأزمة.
هذه الأموال على الرغم من أهميتها لتعزيز النمو، إلا أنها تذهب غالبا إلى قطاعات أقل تنظيما، ناهيك عن القطاع العقاري الذي كان السبب الرئيس لانفجار أزمة 2008، بعد أن عجز المقترضون عن تسديد قروضهم أو حتى أقساطها، إلى جانب أن المشتقات المالية كانت تتوالد بسرعات فلكية، وأسهمت بدورها في تعميق الأزمة.
الولايات المتحدة بعد أزمة 2008 كانت قد فرضت قيودا قوية على الإقراض، وألزمت المؤسسات المالية بكل أشكالها بإدخال إصلاحات لا تتعلق بهيكلتها فقط، بل بـ"سلوكيات" الإقراض.
المشكلة اليوم ليست مختلفة كثيرا عن تلك المشار إليها، فنسب الديون باتت مقلقة في أكثر من دولة، بما في ذلك كندا، ونيوزيلاندا وأستراليا، وحتى الصين تواجه مشكلات جمة في القروض التي تتركز أساسا في القطاع العقاري، وبالتالي فإنه مع ارتفاع معدلات الفائدة تزداد المخاطر الآتية من جهة الديون.
"بنوك الظل" بدأت تنشط بصور مختلفة، وقبل الأزمة المالية الأخيرة، فرضت نفسها بديلا للاقتصاد العالمي، وأسهمت البنوك المركزية الرئيسة عموما في تكريسها، عبر التساهل المرعب في التعاطي مع نموها وحضورها المتزايد في الساحة، حتى إن آلان جرينسبان رئيس "المركزي الأمريكي" السابق اعترف بهذا التهاون، ووصف أزمة 2008 بأنها لا تحدث إلا كل مائة عام. وبعيدا عن هذه التوصيفات، فالمخاطر الآتية من "بنوك الظل" كبيرة، عبر تسهيل الاقتراض، بما في ذلك إتاحة الفرص للشركات الصغيرة والأفراد للاقتراض من المستثمرين عبر الإنترنت.
اللافت أن "بنوك الظل" تضاعف حجمها أربع مرات إلى نحو 1.2 تريليون دولار منذ 2008، رغم كل القيود التي فرضت في القطاع المالي بشكل عام، وهذا ما يجعل المخاوف من أزمة جديدة كبرى حاضرة، فقنوات الإقراض الخاصة، يمكنها أن تصعد نشاطها، وتوجه الأموال إلى جهات لا تنطبق عليها شروط الإقراض تماما، وبعضها يستحيل حصوله على القروض، إذا ما طبقت عليه المعايير المصرفية التقليدية المعروفة.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن تؤسس "الأموال السهلة" لأزمة مالية عالمية جديدة، في ظل مصاعب جمة موجودة بالفعل على جهة الديون العادية، أو تلك التي توصف بعالية المخاطر. هذه السوق أيضا ليست خاضعة للتنظيم بما يكفي لاحتواء أي أزمة قد تنجم عنها بأقل الخسائر الممكنة. الاقتصاد العالمي لا يتحمل حاليا أي أزمة من الحجم المتوسط، فكيف الحال بواحدة ربما لا تكون أعنف من أزمة 2008، لكنها بالتأكيد ستكون قوية في ظل اضطراب اقتصادي عالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي