الاقتصاد السعودي .. التمكين والاستدامة

في سبيل تطوير الاقتصاد وتنويعه وتجديد أدواته الفعالة وتخفيف الاعتماد على النفط، أطلقت المملكة العربية السعودية "رؤية 2030" مرتكزة على عديد من الإصلاحات الاقتصادية والمالية، التي استهدفت تحول هيكل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد متنوع ومستدام مبني على تعزيز الإنتاجية ورفع مساهمة القطاع الخاص، وتمكين القطاع الثالث. وشهد الاقتصاد السعودي خلال عصره الحديث نموا متنوعا على مستوى عديد من القطاعات، مستغلا بذلك الموارد الطبيعية في المملكة، وموقعها الجغرافي والحضاري المتميز. وقد نتج عن هذا النمو بناء قاعدة اقتصادية متينة، حيث أصبح ضمن أكبر 20 اقتصادا عالميا وعضوا فاعلا في مجموعة العشرين، وأحد اللاعبين الرئيسين في الاقتصاد العالمي وأسواق النفط العالمية، مدعوما بنظام مالي قوي وقطاع مصرفي فعال ذي قاعدة ثابتة، وشركات حكومية عملاقة تستند إلى كوادر وطنية مؤهلة.
كما شهدت المملكة خلال الأعوام الماضية إصلاحات هيكلية على الجانب الاقتصادي والمالي، ما يعزز رفع معدلات النمو الاقتصادي مع الحفاظ على الاستقرار والاستدامة المالية. ويظهر هذا جليا في تحسن بيئة الأعمال في البلاد، والسعي المستمر لتمكين القطاع الخاص في دعم التنويع الاقتصادي عبر تحسين بيئة الأعمال وتذليل المعوقات لجعلها بيئة أكثر جاذبية، إضافة إلى الاستثمار في القطاعات غير المستغلة سابقا وكذلك تحسين البيئة الاستثمارية وزيادة جاذبيتها للمستثمرين المحليين والأجانب.
وفي هذا الإطار جدد مجلس الوزراء ضمن جلسة أعماله الأخيرة العزم على الاستمرار في تنفيذ المبادرات والإصلاحات الاقتصادية لتحقيق مستهدفات "رؤية 2030"، فالمؤشرات المالية للربع الأول من هذا العام جاءت وفقا لكل الخطط الموضوعة من قبل، وتؤكد متانة المالية العامة، وقدرتها على تنفيذ التزاماتها في الوقت المحدد لها، فتقرير أداء الميزانية عن الربع الأول يوضح أن الإيرادات بلغت 278 مليار ريال في مقابل مصروفات 220.5 مليار ريال، وهو ما يعني تحقيق فائض قيمته 57.5 مليار ريال خلال الربع الأول من العام الجاري، الأمر الذي يتجاوز التنبؤات بمتوسط إيرادات مقدرة في كل ربع بمبلغ 261.25 مليار ريال، "قدرت الإيرادات العامة عند 1045 مليار ريال"، ما يعني أن الإيرادات قد زادت بنحو 6.41 في المائة عن المقدر، في مقابل ذلك تم صرف 220.5 مليار ريال في الربع الأول من العام الجاري بينما كان المقدر لكل ربع عند المتوسط بمبلغ 238.75 مليار ريال، "قدرت المصروفات العامة عند مبلغ 955 مليار ريال"، وبذلك انخفضت المصروفات خلال الربع الأول عن المتوسط المقدر بمقدار 7.64 في المائة، وهذا كله نتج عنه فائض في المالية العامة بمقدار 57.5 مليار ريال خلال الربع الأول من العام الجاري، وقدرت موازنة 2022 بفائض للعام المالي ككل عن 90 مليار ريال.
ولا شك أن الأرقام تتحدث عن نفسها، فهذه المؤشرات التي تدل على متانة المالية العامة لم تكن نتيجة ارتفاع أسعار النفط فقط، بل نتيجة تفاعل معطيات المعادلة الاقتصادية السعودية الجديدة المتنوعة، فالنفط عامل مهم لكن ليس بشكل مطلق، كما تحسن أداء المالية العامة بشأن الإيرادات غير النفطية بشكل قوي ومستمر وبطريقة متوالية خلال المؤشرات التي سجلت أخيرا، كما تحسنت مؤشرات كفاءة الإنفاق، وتحسن أداء الأجهزة الحكومية بشكل ملحوظ في شأن الاستخدام الأمثل للموارد، وكل هذا يؤكد أن النموذج الاقتصادي الذي أنتجته الرؤية، بكل تفاصيل برامجها ومبادراتها يعد النموذج الأكثر ملاءمة للواقع السعودي حتى الآن.
ونجحت المملكة منذ إطلاق الرؤية في تنفيذ عديد من المبادرات الداعمة والإصلاحات الهيكلية لتمكين التحول الاقتصادي، وشمل هذا التحول جهودا رئيسة عدة متمحورة حول بعد قطاعي يشمل تعزيز المحتوى المحلي والصناعة الوطنية وإطلاق القطاعات الاقتصادية الواعدة وتنميتها، وبعد تمكيني يهدف إلى تعظيم دور القطاع الخاص والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز استدامة المالية العامة. وأسهمت هذه التحولات الهيكلية في تعزيز قدرة اقتصاد المملكة على تجاوز جائحة كوفيد - 19 في عام 2020 بثبات. ويتوقع أن تستمر وتيرة هذا التحول الهيكلي نحو نمو اقتصادي مستدام خلال الأعوام المقبلة، خصوصا في ظل عدد من المبادرات الاستثمارية والعملاقة، تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة، والشركات الرائدة. كما يتوقع أن تتسارع عجلة توطين المعرفة والتقنيات المبتكرة.
فالمملكة منذ انهيار أسعار النفط 2015 لم تقف مكتوفة اليد أمام الواقع الذي تعيشه السوق النفطية، بل أسهمت بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وجهود كبيرة وإشراف ومتابعة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في إعادة هندسة السوق وحوكمتها لتعود وتقف على قدميها بسرعة وتتجاوز الأزمة، وقد فعلت، وبينما كانت السوق تعاني تخمة المعروض لعقود في الماضي حتى تجد أزمة طلب جديدة، استطاعت المملكة أن تصنع "أوبك +"، وهذا النموذج أثبت قدراته على إصلاح السوق حتى في أشد الأيام صعوبة مثلما حدث إبان الأزمة الصحية، وأزمة الحرب في أوكرانيا.
وفي المقابل عملت السعودية في نموذج الإصلاح الاقتصادي من الداخل الذي يركز على القضايا التي تلعب دورا مهما في النمو طويل الأجل، كتنمية رأس المال البشري واقتصاد المعرفة والبحث والتطوير والابتكار مع إدراك أهمية الادخار والتراكم الرأسمالي، كما حافظت السياسة النقدية على التوسع في عرض النقود وفي الأموال المتاحة للإقراض بما يتوافق مع نمو الطلب على برامج الإسكان وتشغيل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ويحافظ على استقرار الأسعار ومستويات نمو حجم الاستثمار والتشغيل، كنتيجة لهذه السياسات الدقيقة جدا كان الاقتصاد السعودي من أول الاقتصادات العالمية التي خرجت من الجائحة بنمو قياسي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما جاء في البيان التمهيدي لوزارة المالية عن موازنة 2022 أن القطاع غير النفطي قد نما بنسبة 8.4 في المائة، ويعد الأفضل منذ الربع الثاني 2011 "أي: خلال عشرة أعوام"ـ وقد نما القطاع الخاص 11.1 في المائة، والقطاع الحكومي 2.3 في المائة خلال الربع الثاني من 2021 على أساس سنوي. كما استطاعت الإيرادات غير النفطية تحقيق نمو كبير حيث بلغت في 2020 نحو 369 مليار ريال بينما لم تتجاوز 127 مليارا في 2014.
هذه المسيرة من الإصلاحات الاقتصادية أتت مع التزام كامل بتحقيق مخططات الرؤية وأهمها برنامج صندوق الاستثمارات العامة الذي قفز حجم أصوله من 570 مليارا في 2015 إلى أكثر من 1.8 تريليون بنهاية 2021، وإجمالي مساهمة في الناتج المحلي 8 في المائة، مع تنمية رأس المال البشري بأكثر من 365 ألف فرصة عمل، وصندوق الاستثمارات العامة بهذا الدور المهم يمارس تمويلا للتنمية خارج إطار الميزانية العامة، لكنه ضمن إطار الإصلاحات الاقتصادية التي ينفذها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبحوكمة دقيقة للأعمال تضمن الاستدامة لجهود الإصلاحات التي شملت الأنظمة وتقنيات الأعمال وأعمال التقاضي ومكافحة الفساد، ومجلس الوزراء عندما يؤكد العزم برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وبحضور ولي العهد والاستمرار في تنفيذ المبادرات والإصلاحات الاقتصادية، فإن في ذلك رسالة واضحة المعالم للمضي قدما في العمل الجاد التي وضعت لبناته المرحلة الأولى من عمر الرؤية في نهضة سعودية مستدامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي