Author

لا استقرار ولا صلابة استثمارية

|
من ذروة ثلاثة تريليونات دولار في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، خسرت العملات المشفرة ثلث هذه القيمة في غضون سبعة أيام فقط، وبلغة الأرقام كان هذا الانخفاض يعني خسارة أكثر من تريليون دولار من الأموال الرقمية. ومع الرعب الذي أصاب المستثمرين والأسواق من هذا الهبوط الحاد، فإن السؤال الأهم يتعلق بمدى هذا الهبوط، وهل هو تراجع مؤقت أم دائم؟ هناك طرفا نقيض في هذه المسألة، فبينما يرى عديد من المؤيدين لهذا النوع من الاستثمارات أنه مجرد تراجع مؤقت، هناك من يرى أنها نظرية الدومينو، وكل تراجع سيقود إلى تراجع آخر.
والملاحظ في التطورات التي شهدتها أسواق العملات المشفرة في الأشهر الماضية أنها قد غيرت المشهد تماما، فشركة تسلا، على سبيل المثال، أعلنت أنها اشترت ما قيمته مليار ونصف المليار دولار من عملة بيتكوين، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها وغيرها من العملات المشفرة، وسادت قناعات بأن العملات المشفرة تعد تحوطا ماليا جيدا ضد الموجة التضخمية، وهو ما دعم دخول صناديق التحوط بقوة للاستثمار في هذا المجال، لكن مع الانخفاض الشديد في أسعارها أخيرا اندفعت صناديق التحوط للانسحاب السريع من السوق، ما ضاعف الخسائر وبعث رسالة شديدة السلبية للمستثمرين الأفراد بسرعة التخلص مما لديهم من عملات مشفرة، حتى إن عملة بيتكوين، وهي الأكثر استقرارا، تراجعت 29 في المائة خلال أسبوع، كما سحبت "تسلا" خيارها بشأن الدفع مقدما بـ"بيتكوين"، بعد تغريدة لمالكها إيلون ماسك، التي جاء فيها: "نحن قلقون بشأن الزيادة السريعة في استخدام الوقود لتعدين بيتكوين ومعاملاتها، خاصة الفحم الذي يحتوي على أسوأ انبعاثات من أي وقود". وفسرت التغريدة بأن ماسك و"تسلا" يسحبان دعمهما للعملات الرقمية.
هذا التطور يرسخ فكرة أن المجال الاستثماري في سوق العملات المشفرة بعيد تماما عن الاستقرار، ومع قرارات البنوك المركزية، مثل بنك الشعب الصيني، حظر العملات الرقمية بشكل فعال، وإعلان أن جميع معاملات العملات المشفرة غير قانونية، فإن التراجع اليوم ليس كأي تراجع حدث قبله.
في المقابل، هناك من لا يزال متمسكا برأيه في سلامة الاستثمار في العملات المشفرة، والحقائق تقف بصلابة هنا، فمن ذلك أن "بيتكوين" مثلا لم تصل بعد حتى إلى قيمتها في 2017، البالغة 620 مليار دولار، وذلك رغم خسارتها ثلث قيمتها في الأشهر الستة الماضية، فهي لا تزال تمثل زيادة بنحو أربعة أضعاف ما كانت عليه في 2017، كما سبق أن شهدت حدوث مثل هذا الانهيار العابر 30 في المائة قبل نحو عام، فالمسألة ليست في خسارة الاستثمارات أو عدم صلابتها، بل في توقيت هذا الاستثمار، فكل من استثمر في "بيتكوين" بعد نهاية 2020 - مثلا - يحملها الآن وقيمتها دون سعر الشراء، على خلاف من استثمر فيها قبل 2017.
والتراجع الذي تشهده هذه الأسواق ليس محصورا فيها فقط، بل هو عام، فعملة تيثر التي اكتسبت صفة مستقرة من كونها مدعومة بأصول، وتعمل تقريبا باعتبارها البنك المركزي لسوق العملات المشفرة، شهدت ظهور تصدعات بسبب ارتباطها بالدولار، فرفع أسعار الفائدة لمواجهة الزيادة في معدلات التضخم أوجد موجة من الذعر لدى المستثمرين في كل الأسواق، ودفعهم إلى بيع أصولهم والاحتفاظ بالأموال السائلة، وبالطبع في مثل تلك الأوضاع من عدم الثقة بالاقتصاد، فإن أول ما تتخلص منه هو الأصول المحفوفة بالمخاطر، مثل العملات المشفرة، بينما تواصل الاحتفاظ بالذهب والعقار، فستيوارت مولر المحلل المالي في البنك الدولي يرى أن هناك ترابطا متزايدا بين العملات المشفرة والأسواق المالية، وتحديدا الممتلكات التقليدية مثل الأسهم. ودراسات البنك الدولي كشفت عن أن زيادة تبني الأفراد والمؤسسات الاستثمارية العملات المشفرة، زادت من ارتباطها بسوق الأسهم، ومع الطريقة التي تعاملت بها البنوك المركزية مع أزمة كورونا، بضخ مليارات الدولارات في الاقتصادات الوطنية، أسهمت في ارتفاع أسعار العملات المشفرة والأسهم معا نتيجة توافر سيولة مالية في أيدي الأفراد، وهذا يسمح بنقل الصدمات التي يمكنها أن تزعزع استقرار الأسواق المالية في أوقات التراجع، كما هو الحال الآن. ويشير المختصون إلى أن الأصول المشفرة لم تعد على هامش النظام المالي الدولي، وأن الوقت قد حان لاعتماد إطار تنظيمي عالمي شامل ومنسق لتخفيف مخاطر الاستقرار المالي الناشئة عن النظم البيئية للعملات المشفرة من جانب، والناجمة عن علاقة الترابط المتزايدة بين العملات المشفرة والأسهم.
ويقول الرئيس التنفيذي لهيئة السلوك المالي البريطانية: "إذا كنت تستثمر في العملات المشفرة، فينبغي لك أن تكون مستعدا لخسارة كل أموالك". فهل تؤكد الأحداث الأخيرة التي تمر بسوق العملات المشفرة هذه المقولة؟
إنشرها