العملات ومراكز القوى

تتصاعد الضغوط على العملات الرئيسة حول العالم، بسبب السياسة النقدية الأمريكية، التي بنيت في الواقع على مخططات الحد من الموجة التضخمية التي تضرب الولايات المتحدة ومعظم الدول.
وحتى نهاية العام الماضي، كان المشرعون الأمريكيون مقتنعين بإمكانية السيطرة على التضخم دون اللجوء إلى رفع الفائدة، لكن السوق أثبتت كم كانوا مخطئين، حين وصل هذا التضخم إلى أعلى مستوى له من 40 عاما. والمشكلة الراهنة على الساحة الدولية حاليا تبقى محصورة في كيفية كبح جماح التضخم والمحافظة على النمو بصرف النظر عن مستوى وتيرته، إلا أن المسألة ليست سهلة، وفي بعض الساحات تبقى مستحيلة، فإما تضخما مسيطرا عليه، وإما انكماشا اقتصاديا سيكون قاسيا لأنه يأتي في انكماش ضرب العالم بسبب تفشي وباء كورونا.
جانب من المحللين والمستثمرين يتوقعون ما سموه "حروب عملات عكسية"، بمعنى أن البنوك المركزية، ولا سيما في الأسواق المتقدمة، تفضل عادة المحافظة على قيمة عملاتها منخفضة لدعم النمو، بما في ذلك تشجيع الصادرات من دولها، لكن مع الارتفاع الكبير للدولار بفعل سياسة الرفع التدريجي للفائدة، فإن البنوك المركزية تحتاج إلى رفع الفائدة لديها 0.1 في المائة على الأقل لتعويض انخفاض 1 في المائة في عملاتها.
غير أن المسألة ليست سهلة أيضا، لأن البنوك المركزية تتعرض لضغوط كبيرة على صعيد قدرتها في مواكبة المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي".
إنها عملية معقدة وتتسم أيضا بالمخاطر، على الرغم من التحولات الملحوظة في المفهوم التقليدي الذي تقوم عليه السياسات النقدية لهذه البنوك.
وإذا ما نشبت "حروب العملات العكسية" واستعرت أكثر في المرحلة المقبلة، فإنها تصنع في الواقع حالة جديدة مختلفة تماما عن الوضع السابق، الذي اتسم بحروب العملات، حتى إن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، أعلنت حربا تجاريا شبه شاملة على بلد كالصين، بعد اتهام بكين بعمليات تلاعب بعملتها لإضافة زخم لصادراتها، بل إن ترمب دخل في معارك مشابهة حتى مع شركاء بلاده الأوروبيين لهذا السبب، وأسباب أخرى.
المحللون الذي يتوقعون "حروب العملات العكسية"، يؤكدون أن الساحة العالمية الآن صارت تتقبل وجود عملة قوية، وموازنة القوى الدافعة للتضخم، خصوصا أن العالم لا يزال يقبل بـ"الارتهان" إلى الدولار الأمريكي كعملة احتياطي من الدرجة الأولى.
وبصرف النظر عن هذا الجانب الجديد حقا، فإن الدولار القوي يبقى مساهما في عدد المعضلات في ميادين الأسواق الناشئة، التي لديها نسبة كبيرة من الديون المقومة بالعملة الأمريكية، وهذه النقطة تحذر منها المؤسسات الدولية، التي تعتقد أن هذه الأسواق تغوص بالفعل في أزمات أكثر عمقا.
واستنادا إلى صندوق النقد الدولي، فإن 60 في المائة من الدول منخفضة الدخل معرضة لخطر تفاقم أزمة الديون.
الضغوط تتزايد على الساحة الدولية نتيجة السياسة النقدية الأمريكية الجديدة، التي وضعت نصب عينها الاستمرار في رفع الفائدة إلى المستوى الذي يؤمن في النهاية أدوات للسيطرة على التضخم، فواشنطن تتحجج بأن نسبة التضخم بلغت 8.5 في المائة، بينما يصل الحد الأقصى الذي وضعته السلطات المختصة له إلى 2 في المائة.
ليس واضحا حتى الآن أن "حروب العملات العكسية" ستشكل المشهد النقدي المقبل، فحتى بلد كاليابان لا يزال يتمسك بوجود عملة ضعيفة، من أجل دعم النمو، لكن لا أحد يضمن استمرار هذه السياسات، الأمر الذي يزيد من احتمالات توسع نطاق الدول التي تفكر بالفعل في خوض هذا النوع الجديد من الحروب، في ظل عالم متقلب محفوف بالمخاطر من كل الجهات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي