الهند .. واحة استقرار ونمو مع اقتصاد متصاعد
في الوقت الذي يعيش فيه معظم دول جنوب آسيا حالة من عدم الاستقرار السياسي معطوفة على أزمات ومشكلات اقتصادية في صورة ارتفاع معدلات التضخم لمستويات قياسية ونقص السلع وانقطاع الكهرباء وتدهور قيمة العملة المحلية ونفاد خزائن الدولة من احتياطي النقد الأجنبي، على نحو ما هو حاصل في سريلانكا وباكستان، دعك بطبيعة الحال من حالتي إيران وأفغانستان، في هذا الوقت نجد الهند وحدها في ذلك الجزء من العالم، تتمتع بالاستقرار السياسي مع اقتصاد صاعد ونمو متواصل، ما جعلها خامس اقتصادات العالم.
وإذا كان مصدر استقرارها السياسي هو نظامها المدني الديمقراطي المستند إلى دعامتي العلمانية والفيدرالية، فإن صعودها الاقتصادي ناجم عن التحولات والخطط المدروسة التي اعتمدتها الدولة منذ أن خلعت رداءها الاشتراكي البائس واعتمدت اقتصاد السوق بديلا في مطلع التسعينيات، فضلا عما يتمتع به المواطن الهندي من مهارات العمل في مختلف القطاعات بفضل التعليم الجيد والإنفاق على البحث العلمي اللذين استثمرت الدولة الهندية فيهما كثيرا منذ فجر الاستقلال.
وتكفينا الإشارة هنا إلى حقيقة أن احتياطيات الذهب والنقد الأجنبي في الهند ترتفع سنويا 21 في المائة، ووصلت اليوم إلى 561 مليار دولار، فيما يتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في العام الجاري إلى 9.2 في المائة، أي إلى مستواه الطبيعي قبل جائحة كورونا التي أدت إلى انكماش الاقتصاد في 2020 و2021 بنسبة 7.3 في المائة وتسببت في فقدان ملايين الوظائف.
وفي الوقت الذي نجد فيه جارات الهند يعشن شبه عزلة أو تخنقهن العقوبات الدولية ولا يجدن سوى التسول من الدول والمنظمات العالمية، نجد الهند محتفظة بثقلها السياسي كلاعب إقليمي كبير لا يمكن تجاهله. ولعل أوضح دليل على صحة ما نقول أنها ظلت طوال الشهرين الماضيين منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية محجة لقادة ومسؤولين كبار من مختلف دول العالم، مع سعي كل دولة إلى كسب ودها وضمها إلى صف سياستها الخارجية.
وقد تجلى ذلك أولا في زيارة قام بها دوليب سينج نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي موفدا من الرئيس بايدن، وتبعها لقاء عن بعد بين بايدن ونظيره الهندي ناريندرا مودي. وتجلى ثانيا في توافد وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين على نيودلهي كل على حدة، ثم عقد قمة هندية - يابانية. وتجلى ثالثا في محادثات هاتفية مطولة تناولت الحرب في أوكرانيا بين مودي وكل من إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي وسكوت موريسون رئيس الحكومة الأسترالية وفولوديمير زيلينسكي الرئيس الأوكراني. ثم توج هذا النشاط بأول زيارة لبوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا إلى الهند، وهي الزيارة التي وصف فيها الضيف علاقات بلاده بالهند بأنها "منارة في البحار العاصفة، وحاول خلالها استمالة الهند وإبعادها عن حليفتها التاريخية الروسية عبر تقديم إغراءات في صورة شراكة استراتيجية طويلة الأمد شاملة اتفاقيات اقتصادية ودفاعية وتجارية وأمنية واستثمارية وتكنولوجية وبيئية وفضائية. وخلال الشهر الجاري استقبلت ألمانيا وفرنسا والدنمارك الزعيم الهندي بحفاوة ووقعت معه اتفاقات شراكة في عديد من الحقول.
كل ما سبق إن دل على شيء فإنما يدل على تحول نيودلهي إلى مركز مهم للدبلوماسية الدولية، وهو في الوقت نفسه مؤشر على دور الهند ومكانتها الكبيرة وحرص المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين على كسب ودها بشتى السبل.
ولعل ما يؤكد أن الهند لم تعد بلدا يفرض الآخر عليه إملاءاته أو يلوي ذراعه لاتخاذ مواقف معينة هو أن واشنطن التي اعتادت ممارسة سياسة العصا والجزرة إزاء الدول الأخرى لم تتجرأ على التلويح بعقوبات ضد نيودلهي لثنيها عن موقفها المحايد في الأزمة الأوكرانية أو عن مواصلة تعاونها العسكري والاقتصادي مع موسكو، واكتفت بتوجيه رسائل امتعاض لم تجد لها صدى في أروقة صناعة القرار الهندية. ويبدو أن لهذه السياسة الأمريكية المهادنة إزاء الهند علاقة بحرص واشنطن على استمرار وتعزيز التحالف الرباعي الهندي الأمريكي الياباني الأسترالي لمحاصرة التمدد الصيني في المحيطين الهندي والهادئ الذي تلعب فيه الهند دور تسهيل الملاحة والتجارة الدولية وتأمين أمنها واستقرارها.
كما أن بريطانيا تحاشت توجيه النصح للهنود حول علاقاتهم بالروس، بل إن رئيس حكومتها صرح أثناء زيارته الهند التي جاءت في خضم تعبئة بريطانية غير مسبوقة ضد موسكو، قائلا: "موقف الهند من روسيا معروف ولن يتغير. فالهند لديها علاقة تاريخية مع روسيا والجميع يحترمها".
والمؤكد أن سياسة الهند الخارجية المستقلة، وموقفها المحايد في الحرب الأوكرانية نابعان من تمسكها بمصالحها الوطنية قبل أي شيء. فهي لا تريد معاداة روسيا، التي تربطها بها علاقات وطيدة وتحالف استراتيجي منذ زمن الاتحاد السوفياتي، كي لا تخسر الصفقات الدفاعية والنووية والتجارية الضخمة التي وقعتها مع موسكو. كما أنها حريصة على علاقات دافئة مع الروس أملا في أن يلعبوا دور القوة الرادعة ضد أي عدوان صيني على الهند مستقبلا، لأن الأزمة الأوكرانية أثبتت للعالم أن الولايات المتحدة والغرب لن ينجدا أصدقاءهما كما يجب في ساعات المحن.