Author

«بريكست» جلب البيروقراطية للتجارة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"جو بايدن لديه كثير من الأولويات لإيجاد الوقت للتفاوض على اتفاق تجاري مع بريطانيا"
بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا
قطع بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، أخيرا، أكثر من خمسة آلاف كيلومتر، من أجل اتفاق تجارة جديد مع الهند، يضاف إلى اتفاقات التجارة التي أبرمتها وتلك التي تسعى إليها المملكة المتحدة في مرحلة ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي "بريكست". عين جونسون شاخصة على الولايات المتحدة بهذا الخصوص التي لا تزال بإدارته الحالية تؤجل الاتفاقات التجارية مع لندن لأسباب متعددة، منها أن إدارة الرئيس جو بايدن، تريد أن تتأكد تماما، أن اتفاق السلام في أيرلندا الذي رعته واشنطن قبل 24 عاما تقريبا، لن يتأثر بأي شكل من الأشكال من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن الخلافات حول وضعية إقليم أيرلندا الشمالية بعد "بريكست" لا تزال قائمة، وتدور حول كيفية إبقاء علاقات الإقليم مع جمهورية أيرلندا على حالها، دون أن يخرج من تحت مظلة المملكة المتحدة.
المسألة معقدة بالفعل، وهي الآن في ساحة الطروحات والتفسيرات التي تتجه لأن تكون عقيمة، رغم وجود اتفاقية تجارة مبرمة بالفعل بين لندن والاتحاد الأوروبي، تنظم العلاقة بين الطرفين ما بعد "بريكست". لكن هذه الاتفاقية ليست مثالية على عكس ما تمناه الموالون البريطانيون للانفصال عن الاتحاد الأوروبي. فالعلاقات بين الطرفين بعد عام ونصف تقريبا، لم تصل إلى المستويات المأمولة، بل هناك خلافات حادة لا تزال قائمة في ميادين، مثل حصص الصيد البحري، وبعض الإجراءات المتعلقة بالتأشيرات، فضلا عن الارتباك الشديد على صعيد انسياب الحركة التجارية برمتها. وهذا ما يطرح أسئلة لا تنتهي، حول مستقبل العلاقات التجارية الجديدة بين حلفاء الأمس، بما فيها تلك التي تختص بجدوى الخروج البريطاني أساسا. والأخيرة، ثغرة يستغلها المؤيدون البريطانيون لأوروبا للضغط على حكومة جونسون "البريكستية".
جاء في أحدث بحوث مركز الأداء الاقتصادي التابع لكلية لندن للاقتصاد، أن الاتفاق بين لندن وبروكسل بعد "بريكست" تسبب في انخفاض حاد في مستوى العلاقات التجارية مع الكتلة الأوروبية. فالإجراءات البيروقراطية على الحدود التي لم تكن موجودة عندما كانت بريطانيا عضوا في الاتحاد تحد قدرات الشركات الصغيرة حتى المتوسطة على التصدير. وهذا الأمر يكن مفاجئا. فحركة التصدير والاستيراد بين بريطانيا والاتحاد كانت تمر بسلاسة ودون رقابة تحذر، وبلا تدقيق في الإجراءات بحكم وجود لندن ضمن نطاق السوق الموحدة. لكن الأمر صار مختلفا تماما الآن، ما يبرر تكدسا هائلا للشاحنات - على سبيل المثال - على الطرق المؤدية للموانئ البريطانية، ما أجبر السلطات المختصة لإنشاء مواقف قرب هذه الموانئ لتخفيف الضغط على الطرق.
ومنذ أول العام الماضي، عندما بدأ تطبيق اتفاق التجارة، بدأت معاناة الشركات الصغيرة والمتوسطة تحديدا، في محاولاتها التعامل مع الضوابط الجمركية وضريبة القيمة المضافة والإجراءات البيروقراطية. وتقول الجهات التجارية المختصة في بريطانيا، إن عددا كبيرا من هذه الشركات توقف بالفعل عن التصدير. ورغم عودة وتيرة التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى ما قبل جائحة كورونا، إلا أن انخفاضا حادا يضرب بالفعل عدة أنواع من البضائع المصدرة، الأمر الذي تسبب في أزمة تواجهها حكومة جونسون في حفاظها على ما أمكن لها من شركات ضمن نطاق السوق المحلية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الوطني مشكلات متعددة على صعيد الموجة التضخمية الراهنة والتشغيل وحزم الدعم وغير ذلك من عوامل فرضتها تداعيات الأزمة التي جلبتها كورونا إلى الساحة العالمية.
لا أحد يعتقد أن الأمور ستكون أفضل في الفترة المقبلة في هذا الميدان الحيوي. حتى الاتفاقات التجارية التي أبرمتها وتبرمها بريطانيا مع دول خارج نطاق الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن تكون بديلا عن علاقات تجارية مع 27 دولة تقبع على حدود المملكة المتحدة. فضلا عن المعضلة التي يبدو أن لا حل لها، تلك المتعلقة بوضعية أيرلندا الشمالية. من أهم المزايا لأي منطقة تجارة حرة موحدة أن حراكها التجاري والخدماتي والسياحي لا يخضع لأي إجراءات بيروقراطية. والانسياب التلقائي في هذا الحراك، هو في حد ذاته من العوائد المستهدفة من قبل المؤسسات والشركات والأفراد أيضا. ومشكلة الإجراءات هذه لا تقتصر على الشركات الصغيرة، بل تشمل في أحيان كثيرة المتوسطة والكبيرة، لأن تأخر التوريد، في ظل اضطراب موجود أصلا لسلاسل التوريد على المستوى العالمي، سيزيد الأعباء الآتية من التكاليف والتأخير.
تعترف الحكومة من خلال مكتب مسؤولية الميزانية بأن تجارة بريطانيا خسرت قدرا كبيرا من الانتعاش في التجارة العالمية. بل ذهب المكتب أبعد من ذلك، بالقول: إن المملكة المتحدة متخلفة عن جميع اقتصادات مجموعة السبع الأخرى. فالخروج البريطاني من الاتحاد تسبب بالتأكيد في ضعف الأداء النسبي، وهذا ما يؤكده حتى بعض أولئك الذين تصدروا مشهد خروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية، وروجوا في الساحة المحلية لمقولات على شاكلة أن حال البلاد سيكون أفضل عشرات المرات، فيما لو استمرت عضويتها في سوق موحدة.
إنشرها