نمو متقلب وتضخم مقلق

الأنظار كالعادة تتجه إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي"، لوضع السيناريو الأكثر واقعية للاقتصاد الأمريكي في المدى المنظور.
لكن في ظل المشهد الراهن لهذا الاقتصاد، لا أحد يستطيع الادعاء بقدرته على وضع السيناريو المحكم في هذا المجال، فالمشهد الاقتصادي في الولايات المتحدة يبقى مضطربا كما هي الحال في ساحات اقتصاد الدول المتقدمة، لأسباب معروفة للجميع، في مقدمتها الآثار التي تركتها جائحة كورونا اقتصاديا، بما في ذلك العبء المالي لها، فضلا عن الهزات الاقتصادية المختلفة الناجمة عن الحرب الروسية - الأوكرانية حاليا، وتأثر الولايات المتحدة وغيرها بهذه الحرب بأشكال مختلفة.
يضاف إلى ذلك، الحيرة الواضحة لدى المشرعين الاقتصاديين في معظم الدول عموما في مسألة مواجهة النسبة المرتفعة للتضخم، وزيادة الأعباء المعيشية على السكان في هذه الدولة أو تلك.
والتضخم يبقى الآفة المقلقة لأي حكومة، فقد وصل في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى له في ثلاثة عقود على الأقل، واضطرت بعض الحكومات المحلية في الولايات المتحدة إلى اعتماد نظام "الكوبونات" لمساعدة سكانها على مواجهة تكاليف الحياة قدر الإمكان، خصوصا في الفترة التي أعقبت الارتفاعات الكبيرة لأسعار الطاقة، وسط مخاوف نقص الإمدادات العالمية بفعل الحرب الجارية في أوروبا، فقد بقيت هذه الأسعار عالية بالفعل، حتى في أعقاب لجوء الرئيس جو بايدن إلى الاحتياطي النفطي المحلي، وضخ ملايين البراميل في السوق.
وفي الوقت الذي انطلق فيه الاقتصاد الأمريكي إلى مرحلة الانتعاش بعد مرور جائحة كورونا بضرباتها الكبرى، تأثر النمو الاقتصادي الذي تلا هذا الانتعاش بصورة سلبية بالطبع، كما حدث بالفعل في معظم الأسواق المكونة للاقتصاد العالمي.
الخطة الراهنة لـ"الاحتياطي الأمريكي" تهدف إلى تقليص ميزانيته العمومية البالغة نحو تسعة تريليونات دولار، بينما يسعى في الوقت نفسه إلى تشديد سياسته النقدية، لماذا؟ بسبب التضخم الذي صار واجبا كبح جماحه أو السيطرة عليه بشكل أو بآخر.
وهذا ما دفع البنك الأمريكي في الشهر الماضي إلى رفع نسبة الفائدة وإن بصورة طفيفة لأول مرة منذ 2018، والتوجه الأمريكي على صعيد الفائدة يتم تحت عنوان عريض، هو الحفاظ على النمو في حدوده الراهنة، أي لتسريع هذا النمو وليس لتبطئته، وهذه مهمة ليست سهلة، بصرف النظر عن القدرات المالية للبلاد كلها، فخطط الإنقاذ أو الدعم التي وضعتها الإدارة الأمريكية خصوصا مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض، لا بد من تقليصها، وهذه المسألة تواجه في الواقع كل الحكومات حول العالم التي ضخت الأموال لتحريك اقتصاداتها في مواجهة الأزمة التي ولدتها كورونا.
القضية معقدة، وتتطلب تحركا تدريجيا عبر التخلي عن نسبة من الأصول شهريا يقدرها البعض بـ95 مليار دولار، بينما سيسعى "الاحتياطي الفيدرالي" إلى طرح ما قيمته 60 مليار دولار من سندات الخزانة كل شهر.
وهناك نقطة مهمة جدا، تتعلق بمدى نجاح البنك المركزي في تقليل حيازته للأوراق المالية المدعومة من وكالات الرهن العقاري، وهذه الأوراق تم شراؤها في الواقع مع بدء اندلاع كورونا.
كل هذه الخطوات يتم بحثها في هذه المرحلة، بينما تسعى الإدارة الأمريكية بكل ما تملك إلى تخفيف الأعباء عن كاهل الأمريكيين، وضبط التضخم، فرفع الفائدة تدريجيا أيضا سيؤثر سلبا في النمو، الذي يعتقد المشرعون الاقتصاديون أن بإمكانهم الحفاظ على وضعيته دون تغيير، لكن لا توجد ضمانات لتحقيق ذلك، في ظل ساحة اقتصادية محلية متقلبة، ومؤثرات خارجية أتت في الوقت غير المناسب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي