أسلحة الحصار الشامل
هدير الأسلحة وجعجعتها في حمى الحرب الضروس الدائرة في أوروبا قد يصم الآذان بغض الطرف عن القرب أو البعد من حيث الجغرافيا.
والحرب لم تضع أوزارها، هب المختصون والباحثون لاستخلاص الدروس وتخمين ما سيكون عليه العالم بعد أن تصمت المدافع ويعود السيف إلى غمده.
في أكثر من مضمار، هناك مراجعة للنفس والحسابات والتفكير مليا إن كان عالم ما بعد الحرب سيكون مثل سابقه أم شيئا مختلفا تماما.
هناك سيناريوهات كثيرة، إلا أن من العسر القول: إن في الإمكان تطبيقها ضمن إطار الواقع الذي سيتشكل بموجبه عالم ما بعد الحرب.
بعض التوقعات، في رأيي المتواضع، ما هي إلا ضرب الأخماس بالأسداس، منها مثلا أن الحرب بداية النهاية للهيمنة الغربية على العالم أو أن أمريكا كقوة عظمى في طريقها إلى الأفول.
صحيح أننا أمام حرب عواقبها وانعكاساتها على أغلب دول العالم إن سلبا أم إيجابا أصبحت محسوسة.
ونشرح أكثر ونقول إن تأثير هذه الحرب في مجمل الحياة بالصيغة التي نعيشها كأفراد لا سابق له منذ الحرب العالمية الثانية.
لن يخرج العالم من هذه الحرب كما كان، بيد أننا قد لا نلاحظ تباينا جوهريا في ميزان القوة والهيمنة والسيطرة على المقدرات التي قد تحتاج إلى زمن طويل نسبيا كي تصبح واقعا.
و"الزمن الطويل" ليس بمقياس سابق الزمان حيث كانت القوة المهيمنة للإمبراطوريات العظمى مثلا تدوم قرونا طويلة.
عالمنا يختلف جذريا وذلك لتغلغل العلم والصناعة والتكنولوجيا الرقمية والذكية تقريبا في كل زاوية من حياتنا.
وهذا ما يجعلنا مختلفين عمن سبقنا ليس بقرون بل بعقود وربما بضعة أعوام.
نحن اليوم في خضم ثورة الذكاء الاصطناعي التي لم تقلص المسافات بيننا فحسب، بل جعلتنا نمر بمراحل حضارية مختلفة الواحدة تزيح الأخرى إلى درجة أننا بالكاد نهضم اختراعا وإذا بنا أمام اختراع جديد يبزه من حيث التطور والخدمة والمتانة.
لكن مهما يكن من أمر التطور التكنولوجي الرقمي، خصوصا في حقل الذكاء الاصطناعي، أرى أن العالم قد تعلم حتى الآن درسين مهمين أفرزتهما الحرب في أوروبا.
الدرس الأول تحدثنا عنه ببعض الإسهاب في مقال الأسبوع الفائت حيث أظهرت لنا الحرب أهمية الطاقة الأحفورية، خصوصا النفط والغاز. صوت النفط يطغى أحيانا على هدير المدافع وهناك من يرى في النفط سلاحا قد يغير استخدامه مسار الحرب ومآلاتها.
والدرس الثاني لا يقل أهمية عن الدرس الأول رغم تباين التأثير. هذا الدرس يتعلق بالأرصدة والأصول المالية والاحتياطيات النقدية للدول والأفراد في الدول الغربية.
لقد استغل الغرب كل شيء تقريبا في سبيل المعركة ويبدو أنه يرى أن تطبيق الحصار الاقتصادي وتجميد الأرصدة الروسية في أراضيه ومصارفه أقصر سبيل لتحقيق خططه وسياساته واستراتيجيته.
كان لروسيا نحو 300 مليار دولار "نحو نصف احتياطيها من العملة الصعبة" في المصارف الغربية. لم يعد الآن لروسيا أي سلطة على هذه الأصول وليس في إمكانها استخدامها بأي شكل من الأشكال.
تكديس الأصول والاحتياطيات النقدية واستثمارها في دول أخرى له مردودات إيجابية كثيرة، إلا أن الحرب أظهرت أن المضار قد لا تقل عن المنافع.
مبلغ الاحتياطي الروسي الذي جرى تجميده، رغم ضخامة حجمه، ضئيل جدا عند مقارنته بحجم الأصول واحتياطيات النقد الأجنبي للصين في هذه الدول التي تقدر ببلايين الدولارات.
الآن أصبح واضحا أن ما تملكه أي دولة من أصول أو احتياطيات نقدية في الغرب قد يكون عرضة للتجميد، أو ربما التأميم أو الاستملاك لأنه يقع تحت سلطة الدولة التي جرى إيداعه فيها.
وقد قرعت صحيفة "نيويورك تايمز" جرس الإنذار في مقال سطره كاتبها توماس فريدمان الذي دعا فيه صراحة إلى مصادرة الأصول والاحتياطيات الروسية المجمدة واستخدامها لإعادة إعمار أوكرانيا.
وقد أخذ الصينيون مقال فريدمان بمنزلة إشارة موجهة إليهم مباشرة. الصين وضعها أصعب حيث تبلغ احتياطياتها وأصولها في أمريكا وحدها نحو ثمانية أضعاف ما لروسيا في الدول الغربية.
ليس سهلا أبدا سحب هذه الاحتياطيات أو استثمارها في بلد المنشأ أو مثلا تحويلها إلى ذهب.
وكأن روسيا كانت تتوقع الأسوأ حيث شرعت منذ بضعة أعوام سحب جزء من احتياطياتها بالدولار وتحويله إلى ذهب، لكن مسار مثل هذا قد لا يفيد الصين للحجم الهائل لاحتياطياتها المالية وأصولها في أمريكا والدول الغربية الأخرى.
ومن ثم، فإن قيمة الذهب المتاح تجاريا في العالم والبالغة نحو أربعة ونصف تريليون دولار بالكاد تغطي ما كدسته الصين من أموال وأصول في الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية.
الدرس الثاني من حرب روسيا وأوكرانيا درس قاس كأننا أمام سلاح جديد هو سلاح الحصار الشامل، السيف الذي يمسكه الغرب بيده دون منازع حتى الآن.