Author

العمر الأمثل لريادة الأعمال

|

* أستاذ هندسة الاتصالات المشارك

شهدت الولايات المتحدة في آب (أغسطس) من العام الماضي أكبر نسبة استقالات لموظفين من أماكن عملهم على أساس شهري، مقارنة بالـ 20 عاما الماضية. كما شهدت مناطق أخرى من العام مثل أوروبا موجة استقالات مشابهة لما حدث في الولايات المتحدة، وقد تزامن هذا العدد الكبير من الاستقالات مع صعود في طلبات تسجيل الأعمال التجارية الجديدة حسب عدد من التقارير والإحصاءات. في الحقيقة لا يمكن إنكار تأثير أزمة كورونا في إحداث هذا التحول في سوق العمل، فبدءا من هيمنة أساليب العمل عن بعد إبان ذروة الجائحة، وليس انتهاء بتخلي أرباب العمل عن عديد من الموظفين أو تقليص عددهم على أحسن تقدير.
حفزت الأحداث السابقة كثيرا من الموظفين إلى إعادة التفكير في البحث عن فرص عمل تتميز بأمان وظيفي أكبر، أو تمنحهم أكثر استقلالية. أيضا انتشر بين فئات الشباب والفتيات، ممن هم في مقتبل حياتهم المهنية، مفاهيم حديثة نسبيا ولقيت رواجا واسعا مثل، البحث عن الشغف وإن كان محفوفا بالمخاطرة المالية، أو الالتحاق بالأعمال التي تمنحهم مرونة في تأدية أعمالهم سواء مرونة في المكان أو الوقت. ومع استقاء كثير من حديثي التخرج والشباب بشكل عام معلوماتهم عن سوق العمل والاتجاهات الحديثة للوظائف من وسائل التواصل الاجتماعي، وانجذابهم إلى كثير من قصص النجاح لرواد الأعمال، أسهم ذلك في تكوين مفاهيم قد تكون مغلوطة حول الوظيفة التقليدية وتأسيس العمل التجاري.
فعبارات مثل، "أتابع شغفي" أو "أمتلك قراري بنفسي" من دون أن يملي علي صاحب العمل أو المدير، أو "أريد أن أحقق ثراء سريعا"، أصبحت تتردد كثيرا على مسامعنا، وتدفعها الأخبار التي تسلط الضوء على حجم الاستثمارات في الشركات الناشئة وتقيم بعضها بعشرات أو مئات الملايين. كل تلك الأسباب وغيرها شكلت صورة وردية حول ريادة الأعمال أو بدء المشروع التجاري، من دون النظر إلى التحديات التي تواجه أو واجهت مؤسسي تلك المشاريع، أو حجم المخاطرة الذي بذلوه حتى استطاعوا أن يصلوا إلى تلك النجاحات.
فالخبرة، والكفاءة، والمهارات الضرورية لتأسيس المشروع التجاري - خصوصا التقني منها - إضافة إلى القدرة على الاستقلال المالي ولو لفترة وجيزة، كلها عوامل ضرورية لنجاح المشروع الريادي. ويؤكد هذا التنظير دراسة أجراها عدد من المختصين في الإدارة وريادة الأعمال في الولايات المتحدة ونشرت في مجلة American Economic Review، خلصوا فيه أن العمر الأمثل لقيادة ونجاح مشاريع ريادة الأعمال هو الـ 45، بينما مؤسسو المشاريع الريادية ممن هم في العقد الثاني من العمر فهم أقل احتمالا لتحقيق نجاحات كبرى لشركاتهم. قام الباحثون بدراسة الأعمال التجارية التي أنشئت في أمريكا بين 2007 و2014، ووجدوا أن من بدأوا تأسيس مشاريعهم في منتصف العمر "بين 40 و50" لديهم القابلية لتحقيق نمو أكبر لشركاتهم مقارنة بالفئة العمرية الأصغر أو الأكبر على السواء.
إن العمل التجاري يتطلب النضج الإداري، والخبرة المهنية في المجال، وكذلك رأس المال لتقليل الاعتماد على القروض والاستدانة في بداية تأسيس المشروع، وهذه العوامل لا تتوافر عادة إلا مع تقدم الوقت، واكتساب الخبرة وتحصيل المال خلال العمل في الوظائف التقليدية. ومع هذا كله، لا يفهم من هذا الطرح هو العزوف عن مشاريع ريادة الأعمال أو خوض التجربة والمحاولة، بل على العكس، فإن إنشاء المشاريع المتميزة والريادية مهم لتطور الاقتصاد والدفع بعجلة الابتكار والتنمية قدما، ولكن ذلك يتطلب تأنيا مدروسا، وخبرة مكتسبة، ونضجا مهنيا يتأتى عبر الأعوام.

إنشرها