دار المزاد العقاري
عندما يفقد النقد في الحقوق المالية على المدين أو تتعثر طرائق الصلح بين الشركاء في الأعمال التجارية والمساهمات أو في قسمة التركات بين الورثة يكون الحل والمخرج في بيع الأعيان، وعلى رأسها العقارات، في المزاد العلني رغبة في صيانة الحقوق ودفعا للمماطلة وقطعا للخصومات، وهذا الخيار يبلغ منتهاه لو أقيم بحرفنة وطول خبرة وتهيأت له الظروف الملائمة، لكن المراقب والمتابع لمشهد المزاد العقاري العام "وقد أقيم أكثر من 200 مزاد عام 2021 أقامها وكلاء البيع لمحاكم التنفيذ أو الإسناد والتصفية أو تصفية للمساهمات العقارية" يجد أن المزاد لا يخرج بالصورة المأمولة في بلوغ السعر المراد أو وجود منافسة حقيقية، لأن التطور والتقنية نالا القشور وتركا اللب، لأن الركيزتين الأساسيتين في المزاد: البائع الجيد والعميل المليء أو الراغب في السلعة، والبائع الجيد هنا هو "الدلال" أو ما يسمى مدير المزاد، الذي اقتصر دوره أخيرا على ذكر أرقام السعر وتحفيز الآخرين بالزيادة برفع الصوت دون غيره، وبعض المزادات لا يحضرها أحد، وهذا واقع لا ينكر، والمزاد قديم بقدم التأريخ، بل من زمن الإغريقيين، ولنا في التجارب العالمية خيار مناسب نخرج به من ضعف عمليات المزاد فتضيع أحيانا الحقوق بالاستيفاء أو في تحصيلها كاملة لأصحابها، ويضيع الجهد القضائي المبذول في إصدار الأحكام واستئنافها وتنفيذها.
إن من النماذج الرائدة التي لو تحققت عندنا لظفرنا بالبائعين الجيدين ولتوافر لدينا عملاء مميزون، ولتحقق للجهات المعنية ما رامت من إقامة تلك المزادات، وهي دار للمزاد العقاري لها صالاتها وديوانياتها وباحاتها وقاعاتها، وأصحابها المؤهلون والمدربون باحترافية عالية ومواهب فطرية تكون جاذبة لأصحاب هذه السلع العقارية، وتعد "كريستيز" دار المزادات العالمية ومقرها الرئيس لندن، التي أسست عام 1766 على يد جيمس كريستي، التي تنظم سنويا نحو 350 مزادا على امتداد أكثر من 80 فئة مختلفة، وفي أشهر مزاد لها في 11 أيار (مايو) 2015 في نيويورك بيعت لوحة بابلو بيكاسو "نساء الجزائر" مقابل 179.3 مليون دولار لتصبح اللوحة الأغلى على الإطلاق في تاريخ مزادات الأعمال الفنية، ويحسب لمؤسس الدار جيمس كريستي "1730 - 1803" أن ما ميز صالته هو الجو الذي أوجده كمدير للمزاد وخط به طريقا جديدة للمزادات تتمتع بالشفافية، فقبله كانت وظيفة مدير المزاد وظيفة روتينية.
لكنه بشخصيته الجذابة حول المزايدة إلى نوع من الفن، يتحول فيه مسؤول المزاد إلى مؤد يقدم عرضا للجمهور عبر منبره الخشبي، فبدل أن يكون بائعا أصبح فنانا يعشق الجمهور حركاته ونكاته وقدرته الفائقة في الحركات والأفكار، وتوج كريستي نجاحه بالتحول بصالته إلى أوساط النبلاء والأثرياء، حيث حول مقر الدار إلى حي سانت جيمس القريب من قصر باكنجهام، وهذا التميز الذي صاحب هذه الدار ومؤسسها يجعل فكرة إقامة صالات ودور للمزادات العقارية تجذب العملاء المهتمين بالسلعة العقارية، وتجعلها سلعة دارجة بما يطرح وما يدار فيها بالخصوصية المناسبة لكل بلد، تجعل الرواد يستمتعون بالحضور ويبذلون بسخاء في المزايدة على السلع العقارية المعروضة، وهذا ما يفسر نجاح الصفقات التي تقام في التجمعات المحدودة في بعض مكاتب العقارات التي تجهز بعض الترتيبات التراثية، ما يجعل المكان مرتادا ومقصودا، والسلع العقارية فيها تدرج وتباع بأقل جهد وأعلى سعر ودون مزايدة.