Author

شطارة التاجر .. لا غالب ولا مغلوب

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

في مواجهة متغيرات السوق من أنظمة وإجراءات ومختلف أشكال المنافسة، يحق للتاجر ما يحق لغيره من البحث عن المداخل والمخارج الممكنة والمقبولة نظاميا، التي تخدمه وتحقق مصالحه وأهدافه الربحية، عدا ذلك فإنه بكل تأكيد سيورط نفسه ومنشأته فيما لا تحمد عقباه، وفيما لا ولن تنفع معه صرخات الاستغاثة، وحسبما يتم تكراره دائما في مجالس ومنتديات التجار، فإن كيفية التعامل بذكاء واحترافية مع أي من تلك المتغيرات التي لا تستقر لها حالا واحدة أبدا تنطلق أولا وآخرا مما تعارف التجار على تسميته بشطارة التاجر، التي يمكن توصيف معناها بلغة من هم خارج عالم التجارة بالخبرة التراكمية التي جمعها التاجر طوال ممارسته لهذا النشاط.
أحيانا كثيرة تنجح هذه الشطارة التجارية في المحافظة على مكتسبات صاحبها، وتدفعه إلى الانتقال من مستوى إلى مستوى أعلى، وتمكنه من التكيف سريعا مع متغيرات السوق والنشاط الذي ينتمي إليه، وقد تذهب به إلى ما هو أبعد بكثير مما كان يخطط له، فترتفع أرباحه ويتسع نشاطه ويتقلب في بحبوحة من الثراء لم تخطر على باله يوما من أيامه الماضية، وأحيانا أخرى قد تورطه تلك الشطارة فيما قد يتسبب في توقف نشاطه نهائيا، وتحمله ركاما من الخسائر الطائلة، وقد تمتد به - إن ساءت الأمور - أيضا إلى تحمله غرامات مالية طائلة، وقد يتورط في الحكم عليه بالسجن، وهي المحاذير الأعلى خطرا التي لا يجب أن يسمح التاجر بتورطه فيها مهما كانت المغريات أو المبررات في أول الطريق.
يجب أن يدرك التاجر طبيعة التحولات الكبرى التي تجري من حوله، خاصة في ظل أكبر عمليات إصلاح وتطوير يتم إجراؤها محليا خلال الفترة الراهنة على المستويات كافة، وأن رصيد خبرته التجارية "شطارته" مهما بلغ حجمه واتساعه، لا بد في مواجهة تلك المتغيرات الجذرية والشاملة من أن يعمل على تحديثها وتغذيتها بصورة مستمرة بالمستجدات التي طرأت على بيئة السوق عموما، وبيئة النشاط الذي يعمل ويتاجر فيه، وأن يدرك تمام الإدراك أن التغيرات وفق هذا المنطق الذي يتم الحديث عنه هنا، وبكل ما تتضمنه بأجزائها الواسعة من إحداث تغييرات جذرية وعميقة في جوهر تعاملات بيئة الاستثمار والسوق، أنها قد تعني تحول ممارسات تجارية معينة كان مسموحا بها سابقا، أو كانت غير مشمولة بالتجريم والعقوبات إلى ممارسات مجرمة نظاميا بعد الإصلاحات والتطوير، وأن ممارسات تجارية أخرى كانت غير ملزمة في الماضي، قد أصبحت اليوم إلزامية وتتم معاقبة من لم يوف بها، وقس على ذلك كثيرا جدا مما كان ممكنا أو مسموحا أو غير مخالف في السابق، قد أصبح اليوم مختلفا تماما عما كان عليه في الماضي، وأن الأمر هنا قد أصبح خارج دائرة الخيارات، التي كان بإمكان التاجر الأخذ بها أو عدمه في وقت مضى، وقد تحول إلى متطلبات نظامية إلزامية، ولا مجال بأي حال من الأحوال للقفز عليها أو تجاوزها أو التلاعب بها، وأن عواقب أي من تلك الممارسات مهما كانت أعذارها ستكون وخيمة على كاهل من قد يتورط فيها.
خلاصة القول: إن قواعد اللعبة تغيرت، وبناء عليه لا بد أن تتغير مكونات "شطارة" التاجر، وإلا فإنه سيجد نفسه ذات يوم قريبا خارج الملعب "السوق"، قد يبدأ هذا الخروج المرير بالإفلاس كأقل الأضرار عليه، وقد ينتهي به بتحمل أعباء غرامات وعقوبات وسجن لا نفع للندم معها بأي حال من الأحوال، وهو ما يعني في الحقيقة أنها ضوابط ومتغيرات ملزمة، وأن التساهل أو الإهمال سواء عن قصد أو غير ذلك من جهل بها لن يفيد شروى نقير من وقع في مخالفاتها وتجاوزاتها النظامية. وعليه، لا بد من أخذها في الحسبان من قبل كل تاجر راهن، ومن قبل كل من سيقدم على عالم التجارة والاستثمار.
جزء كبير من "شطارة" التاجر، تتحكم فيه النفس بدرجة كبيرة، وهو ما اصطلح التجار على تسميته بالحس التجاري، هذا أيضا ينبغي على التاجر أن يعيد حساباته الموضوعية معه، وأن يدخله قناة البناء من جديد وفق المعطيات والمتغيرات الراهنة، وألا يسمح له بتجاوز محددات النظام والإجراءات التنفيذية المتعلقة به، فقد يكون حسا مدفوعا من النفس الأمارة بالسوء، الذي لن يحمد التاجر عقباه إن تورط فيما قد أصبحت ممارسات تجارية مخالفة ومجرمة. ولعل هذا الحس هو الجزء الأخطر من "شطارة" عديد من التجار، الذي قد يوقع أصحابه في وهم إمكانية التلاعب والتجاوزات، ما يقتضي بالضرورة من التاجر أن يعمل جاهدا على كبحه مهما تفتق عن أفكار وخيالات، وأن الأولوية في مثل هذا المقام هي الالتزام التام بالأنظمة والإجراءات المقررة، ومنها ينطلق جهد البحث عن لقمة العيش والربح، ولا مجال آخر في هذا السياق يمكن الخوض فيه.
يمثل التنظير في عالم التجارة والاستثمار، نقطة ماء صغيرة في محيط واسع الأطراف، وما تقدم ليس تنظيرا في التجارة والاستثمار، بل هو تذكير فقط لما أصبحت عليه الحال في هذا العالم الواسع والمتجدد لحظة بلحظة، إنه تذكير بروح النظام وما يتوالد عنه من لوائح وإجراءات عديدة من فترة إلى أخرى، وتذكير بالضرورة القصوى للالتزام بها، وأخذها في الحسبان من قبل كل من يخوض أو سيخوض في بحر التجارة والاستثمار. النقطة الجديرة بالاهتمام هنا أن هذا التذكير من النادر جدا أن يحظى به الغاطس في التجارة من غيره من الغاطسين، ذلك أن ما قد يكون شغلهم الشغل كغاطسين في التجارة والاستثمار، هو كيفية النجاة أو الهروب من هذه المستجدات، وما الحلول البديلة للقفز عليها أو تجاوزها، على أنه كما أخبرتنا الحياة لن تجد حلولا عند غريق يبحث عن طوق نجاة، وأؤكد أيضا أنك لن تجدها عند غيره ساعة الغرق في بحر المخالفات والتجاوزات، وأن النجاة تبدأ من الابتعاد تماما عن تلك الدوامات والعمل جاهدا على التكيف مع متغيرات السوق بكل أشكالها، وعدا ذلك فلا يتجاوز كونه وهما ساقه إليك إما شطارة تاجر غابرة، أو حس تجاري خادع، أكل الدهر عليهما وشرب.

إنشرها