Author

من المتعلم في عصر المعرفة؟ «1من 2»

|
يواجه الإنسان تحديات مختلفة في حياته الشخصية والاجتماعية والمهنية، ويفترض أن يكون التعليم قد هيأ له الزاد اللازم الذي يمكنه من مواجهة هذه التحديات والتعامل معها بالأساليب المناسبة. والتعليم بالطبع ليس معرفة فقط يكتسبها الإنسان، بل لا بد أن يكتسب أيضا مهارات التفكير، والنظر إلى ما لديه من معارف من جوانب عدة، تساعده على الاستفادة منها في مواجهة تحديات الحياة، فضلا عن تعزيز قدرته على الإبداع والابتكار وتقديم معارف جديدة، مع الالتزام بمكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين. وتختلف متطلبات التعليم، وما فيها من معارف ومهارات وتجدد وحسن تعامل، باختلاف معطيات العصر والتحديات التي تواجه الإنسان. ولا شك أن عصر المعرفة، الذي يتميز بانتشار المعرفة والتنافس على تجددها وتوظيفها والاستفادة منها، قد زاد رفاهية الإنسان، وزاد أيضا في تحديات الحياة، ومتطلبات التعليم.
فمن المتعلم في بيئة عصر المعرفة والمعطيات المعرفية والاقتصاد المبني على المعرفة؟ سؤال يستحق الطرح، ويحتاج إلى إجابة تستحق الطرح أيضا. وسنستند في هذه الإجابة إلى الأسس التي استخلصها خبير التعليم المعروف جوزف رينزوللي Joseph S. Renzulli من دراساته بهذا الشأن. فهذا الخبير هو أستاذ التعليم في جامعة كونيكتيكت Connecticut الأمريكية، ويهتم بتطوير المدارس ورعاية المتميزين، وعمل مستشارا للبيت الأبيض في شؤون التعليم، ولديه عقود من الخبرة، حيث بلغ الـ 85 من العمر، ولا يزال على رأس عمله.
تقول إجابة رينزوللي عن السؤال المطروح: إن المتعلم هو من يملك 16 صفة، يفترض أنه اكتسبها عبر رحلته مع التعليم. ولا تأخذ هذه الصفات المعرفة التخصصية في الحسبان، وإنما تركز على الجانب العام الذي يجب أن يتحلى به كل متعلم مهما كان تخصصه أو خبرته المهنية. وحبذا لو أن التعليم العام يبني هذه الصفات في خريجيه، لتترسخ بعد ذلك أكثر في التعليم العالي، والعمل المهني. وسنستعرض بعض هذه الصفات ونناقشها في هذا المقال، ثم نكمل باقي الصفات في المقال التالي بمشيئة الله.
تبعا لما سبق، تتكون الصفة الأولى المطروحة للمتعلم من جزأين متكاملين. يتمثل الجزء الأول في قدرة المتعلم على وضع خطة عمل تحمل هدفا يود تحقيقه، عبر تنفيذ سلسلة من المهمات التي يحتاج إليها ذلك. أما الجزء الثاني، فيركز على قدرة المتعلم على وضع خطة بديلة إضافية، كي لا تغلق الأبواب أمام المتعلم، صاحب العلاقة إذا ما تعثرت الخطة الأولى. وتدل هذه الصفة على أن المتعلم يجب أن يعرف ما يريد، ويعرف كيف يخطط لما يريد، ويتمتع بالمرونة والصمود اللازمين لتعديل ما خطط له والسير في اتجاه بديل عند الحاجة. ولعل من المناسب هنا ذكر أن طالب الثانوية العامة يحتاج إلى اكتساب هذه الصفة، خلال أعوام دراسته، كي يستطيع وضع خطة لمستقبله في التعليم العالي، وخطة بديلة أو أكثر من أجل تحقيق طموحاته في إطار أولويات ممكنة يختارها لنفسه.
وننتقل إلى الصفة الثانية التي يجب أن يتحلى المتعلم بها، وهي صفة المراقبة والمتابعة للمعلومات في الموضوعات التي تهمه. ولهذه الصفة فائدتان رئيستان، فهي توسع دائرة رؤية المتعلم للأمور المطروحة أمامه عبر تلقيه مزيدا من المعلومات بشأنها من ناحية، وهي بذلك تساعده على اتخاذ قرارات أفضل حولها من ناحية ثانية. وترتبط هذه الصفة بصفة التخطيط السابقة، حيث تثري المعلومات الإضافية القاعدة المعرفية التي يستند إليها التخطيط المطلوب.
ونأتي إلى الصفة الثالثة من صفات المتعلم، وتتميز هذه الصفة بقدرة المتعلم على تمييز أنماط المعلومات وإدراك العلاقات والاختلافات فيما بينها. وإذا كان من أمثلة في هذا الإطار، فلعل في خصائص المعلومات المختلفة وتصنيفاتها تبعا لمعايير ترتبط بها، ووضع مؤشرات تعبر عنها، ومقارنة قيم حالات مطروحة مع قيم مرجعية مختارة، في مجالات مختلفة. والخلاصة هنا هي أن هذه الصفة تتوقع من المتعلم استيعابا متكاملا للمعلومات التي أمامه، حيث يتسم هذا الاستيعاب بالتنظيم وإدراك المحتوى المعرفي والتعمق في مضامينه.
تقضي الصفة الرابعة من صفات المتعلم تمتعه بالقدرة على التعبير ومناقشة الأفكار والفرضيات بلغة رصينة تستند إلى أدلة موضوعية. وترتبط الصفة الخامسة بذلك أيضا، وتركز خصوصا على قدرة المتعلم على طرح أسئلة تتميز بصياغة مناسبة ومحتوى موضوعي مستهدفة معنى مفيدا. ومن الواضح أن هاتين الصفتين تركزان ليس فقط على جانب التفكير الذي يجب أن يتمتع المتعلم به، بل على جانب التعبير عن معطيات التفكير بالأسلوب المناسب.
ونصل إلى الصفة السادسة من صفات المتعلم، وهي التي تهتم بتوظيف المعرفة ونقل الأفكار المناسبة إلى أرض الواقع من أجل الاستفادة منها. ومن الواضح أن هذه الصفة تركز على إحياء المعرفة المفيدة بالتطبيقات، فالمعرفة المسجونة في الأدراج وذاكرات الحواسيب، بل حتى في ذهن أصحابها تبقى غير مؤثرة في حياة الإنسان، ما لم تأخذ طريقها إلى التطبيق والتأثير في أرض الواقع. وعلى هذا الأساس، تحمل هذه الصفة المتعلم مسؤولية السعي إلى تطبيق المعرفة المناسبة التي يتمتع بها عمليا، وتوظيفها لما يعود عليه والمجتمع من حوله بالفوائد المرجوة منها.
وهكذا يكون هذا المقال قد قدم ست صفات للمتعلم في بيئة عصر المعرفة والمعطيات المعرفية والاقتصاد المبني على المعرفة. وشملت هذه الصفات قدرة المتعلم على وضع خطط وخطط بديلة للمستقبل، ومراقبة المعلومات المفيدة المتاحة ومتابعة تجددها، وإدراك محتوى المعلومات والقيام بتنظيمها، والتعبير ومناقشة الأفكار والفرضيات، وطرح الأسئلة الموضوعية، وتوظيف المعرفة. وقد استندت هذه الصفات إلى أسس وضعها جوزف رينزوللي أحد أهم خبراء التعليم في عالم اليوم، وهناك مزيد من الصفات التي سنطرحها في المقال المقبل بإذن الله.
ولعل من المناسب أخيرا القول: إن إعداد المتعلم الذي يحمل صفات تتناسب مع معطيات بيئة عصر المعرفة والمعطيات المعرفية والاقتصاد المبني على المعرفة، هو إعداد للمجتمع بأسره في مواجهة تحديات الحياة، ومتطلباتها المتجددة... يتبع.
إنشرها