Author

مدارس المستقبل في أفكار متجددة

|

ليس غريبا أن نرى تطوير التعليم يشهد اهتمام كل من ينظر إلى المستقبل، ويتطلع إلى التنمية والتقدم. فالتعليم عبر العصور كان دائما الوسيلة الرئيسة لتحقيق طموحات المستقبل. ثم ليس غريبا أيضا أن نجد أفكار هذا التطوير، الصادرة عن مؤسسات مرموقة، وأفراد مشهود لهم تتكرر وتلبس وجوها متجددة، وتطلق في إطار مجموعات، رؤى متقدمة لمدارس المستقبل. ولا شك أن الاهتمام بهذه الأفكار، والسعي إلى تقييمها، وتفعيل الواعد منها، بل التوجه نحو ابتكار مزيد باتت أمورا تتصف بالضرورة التي يجب التركيز في شؤونها، وذلك من أجل تحقيق التنمية والتقدم، بل التميز في ذلك، في بيئة عالم يشهد ازدحاما كبيرا في التنافس على المعرفة والمهارات المرتبطة بها.
موضوعنا في هذا المقال هو الأفكار الرئيسة الواردة في تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي الذي يحمل عنوانا رئيسا يقول: "مدارس المستقبل". ثم يحمل عنوانا فرعيا يقول: "التعريف بنماذج جديدة في التعليم من أجل الثورة الصناعية الرابعة"، والثورة الصناعية الرابعة هي اصطلاح في التاريخ العلمي والتقني الحديث يهتم بمنجزات الإنسان، ويغطي الفترة التاريخية التي بدأت في مطلع القرن الـ 21 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وتتميز ببروز منجزات تقنية حديثة مثل "تقنيات النانو، وإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والخريطة الجينية". وقد صدر هذا التقرير في الشهر الأول من عام 2020، أي: سبق إنذارات فيروس كورونا، لكنه لم يسبق معطيات التحول الرقمي.
أعطى تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي ثماني أفكار رئيسة لتطوير التعليم نحو بناء مدارس المستقبل، سنحاول في التالي طرحها والتعليق عليها. شملت الفكرة الأولى العمل على تضمين التعليم "مهارات يحتاج إليها من أسمته المواطن العالمي. والمقصود هنا: أن يكون خريج الجامعة قادرا على التواصل، وتبادل المصالح، مع الآخرين حول العالم، بمعنى أن يكون مستوعبا لاختلاف الثقافات حول العالم في إطار "التوافق الثقافي" والبعد عن الصراعات. ولا يعني هذا التوافق أي تخل عن الانتماء، وإنما يعني قبول التعددية والتعاون مع الآخرين لما فيه مصلحة الجميع. وليست هذه الفكرة جديدة، بل هي فكرة وردت على لسان رئيس جامعة المكسيك الذي عدها من أهم خصائص خريج الجامعة في هذا العصر، وقد أعاد عميد كلية بيركلي في جامعة كاليفورنيا طرحها في محاضرة له عام 2008.
تضمنت "فكرة التطوير الثانية" التي أوردها التقرير موضوع اهتمام التعليم بتطوير "مهارات الطلاب في الإبداع والابتكار"، وهي مهارات يتم طرحها من قبل جهات مختلفة لأنها وسيلة للتنافس والتفوق يحتاج إليها الجميع في هذا العصر. وترتبط هذه المهارات بأساليب التفكير، والعقلية النامية ومرونتها، والشغف، والإقبال على العمل والإنجاز. وتأتي "الفكرة التطويرية الثالثة" امتدادا داعما لسابقتها، وباقي أفكار التطوير الأخرى، حيث تهتم بتطوير المهارات التقنية، خاصة التقنية الرقمية وتطبيقات الفضاء السيبراني المختلفة. وتساعد هذه المهارات على توسيع دائرة اطلاع الطلاب، وتحفزهم على الإبداع والابتكار، أمام ما يرونه من منجزات الآخرين.
وتهتم "الفكرة التطويرية الرابعة" بالمهارات المرتبطة بشخصية الإنسان وسلوكه في المجتمع. ويبرز في هذا الإطار موضوع الذكاء العاطفي الذي طرح لأول مرة عام 1990 في ورقة بحثية شارك فيها بيتر سالوفي رئيس جامعة ييل الحالي. ولا يرتبط هذا الذكاء بالموهبة، وإنما هو قابل للتعلم والاكتساب حيث يضبط سلوك الإنسان تجاه ذاته من جهة، وتجاه الآخرين من جهة أخرى، ويعزز فرص نجاحه اجتماعيا، بل مهنيا أيضا.
وتنطلق "الفكرة التطويرية الخامسة" من حقيقة وجود اختلاف في إمكانات الناس، وقدراتهم على التعلم تبعا للمجالات المختلفة. ونتيجة لهذه الحقيقة تطرح هذه الفكرة مسألة تعلم الناس للموضوعات والمهارات المختلفة تبعا لإمكاناتهم وقدراتهم الشخصية وليس فقط تبعا لمناهج صارمة تطبق على الجميع. وتتوافق هذه الفكرة مع ما كان يطرحه كين روبنسون خبير التعليم الراحل في محاضراته العامة وكتبه المنتشرة على مدى أعوام.
وتأتي "الفكرة التطويرية السادسة" لتبرز الحاجة إلى تعلم شامل يستوعب الجميع، وليس فقط أولئك القادرون على الذهاب إلى المدارس. وتتوافق هذه الفكرة مع موضوع التعلم عن بعد، والتعلم الإلكتروني، بل التعلم المدمج أيضا. وقد شهد هذا الموضوع اهتماما، بل تطبيقا قسريا مع بروز أخطار فيروس كورونا الخبيث. وقد طرح المنتدى الاقتصادي الدولي هذا الموضوع من أجل مناقشة شؤون المستقبل بشأنه، ولعلنا نعود إلى ذلك في مقال مقبل - بمشيئة الله.
تهتم "الفكرة التطويرية السابعة" بالتعلم المبني على المسائل والمشاريع والتعاون، وليس على اكتساب الموضوعات تسلسليا. والغاية من ذلك هي تحقيق تفاعل أكبر مع متطلبات الحياة، وتشجيع أفضل على التفكير والبحث عن حلول، والسعي إلى اختبارها، واختيار الأفضل منها. ولهذه الفكرة تاريخ في التطبيق الفعلي، بدأ قبل عقود، في بعض كليات الجامعات. وهكذا نصل أخيرا إلى "الفكرة التطويرية الثامنة" التي ترفع شعار التعلم مدى الحياة المتداول على نطاق واسع، خصوصا مع تزايد الحاجة إلى ذلك بسبب التقدم العلمي والتقني المتسارع. ويبرز التعلم الإلكتروني مرة أخرى هنا أيضا، حيث يسمح للجميع حول العالم بالاستفادة من التعرف على التجدد المعرفي المطروح حول العالم، واستخدامه في التطوير والتطور.
لا شك أن أفكار تطوير التعليم كثيرة، وأغلبها لها تاريخ سابق سواء بالفكر والتطبيق حينا، أو بالفكر فقط أحيانا. وإذا كنا قد طرحنا، بالبيان والتعليق الأفكار الثماني الواردة في تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي، فإن هناك أفكارا أخرى أيضا حول الموضوع، وهناك أيضا انتظار لأفكار جديدة مبتكرة. ويتجلى هذا الأمر خصوصا مع بروز تحديات فيروس كورونا الخبيث من جهة، ومع تطور التحول الرقمي من جهة أخرى. والباب مفتوح لأفكار الجميع، خصوصا أن الموضوع مرتبط بالجميع أيضا.

إنشرها